تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس.. إصلاح القطاع العام برؤى الجهات الدولية المانحة. |بقلم: عبد الجليل معالي*.
تصريح مسؤول تونسي عن كون تونس تعتزم تسريح عدد كبير من موظفي القطاع العام بشكل طوعي خلال عامي 2017 و2018، هو خبر يخرج من طائلة الاهتمام الاقتصادي الصرف، ليرتفع إلى ما يعدّ اختزالا دقيقا لما تمر به البلاد منذ سنوات.
الخبر الذي يعدُ متقبليه بأن تونس عازمة على تدشين مرحلة إصلاحات اقتصادية عاجلة، لن يلقى القبول الذي يفترض أن يترتب عن الحديث عن الإصلاح.
الواضح أن تونس عازمة، أو مجبرة، على التقليل من عدد موظفي القطاع العمومي، ولئن كان الخبر الجديد يعدُ بـ”طوعية” ستعرض على المعنيين، فإن الوجه الآخر، هو تحفيز التقاعد المبكر، أما الوجه الثالث فهو إيقاف الانتداب في الوظيفة العمومية (مشروع ميزانية 2017 شمل إيقـاف الانتدابات في القطاع العمومي باستثناء خريجي مدارس التكوين وعدم اللجوء إلى تعويض المحالين على التقاعد خلال نفس السنة).
في العزم على الإصلاح إقرار مبدئي بوجود خلل أدى إلى وجود هذا الانخرام، ولكن العديد من القرارات السياسية أصبحت تغلف بإطار الحديث عن الإصلاح، وهو ما يبرر التخوفات التي نبعت مباشرة بعد هذا الإعلان، وإن كانت النية قديمة، ولم تختف يوما من برامج بعض الأحزاب أو من أروقة الوزارات، إلا أن التعرف على الدافع الحقيقي وراء تحول النية إلى إجراء قريب، كفيل بإشاعة المزيد من المخاوف المبررة، لا فقط عند المنظمات والتيارات والأحزاب التي تتحركُ فوق أرضية نقابية أو يسارية، وإنما لدى عموم الشعب التونسي.
القضية قديمة، وهي مثار خلاف دائم بين الداعين إليها وبين المحذرين بمخاطرها، إلا أن وجود أبواب كثيرة للنفاذ إلى المسألة، يحتم أولا توفير حد أدنى من التنسيب ويفرض ثانيا استدعاء المشهد السياسي والاقتصادي كاملا وبمختلف فاعليه المحليين والخارجيين (وهم أكثر تأثيرا في الراهن على الأقل).
القول بأن الجهات الدولية المانحة أصبحت تضغط على تونس من أجل تدشين مسار طويل من الإصلاح الاقتصادي والمالي، لم يعد من قبيل التأويلات التونسية بل أضحى من عاديات الاعتراف لدى الفاعل الرسمي، حيث لم يعد مسؤول الحكومة يرى ضيرا في القول إن البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، يربط القروض بالإصلاح، وهو ما كان سابقا يعدّ من الأسـرار أو من الحقائق التي تقال همسا. وإصرار الجهات الدولية المانحة على فرض إصلاحات، بنقاط معلنة ومحددة، هو ما يعزز مخاوف المواطنين كما الأحزاب المعارضة والنقابات.
إقرار آخر يكاد يقترب من الإجماع مفاده أن كتلة الأجور للوظيفة العمومية، كنسبة مئوية من الناتج الداخلي الخام، تعد من بين الأرفع في العالم. تشخيص ترجم صندوق النقد الدولي علاجه بضرورة الإسراع في تعصير الوظيفة العمومية وترشيد كتلة الأجور، فيما رأت جهات أخرى تونسية أن الأمر يعالج أساسا بمحاربة الفساد المستشري في كل هياكل وقطاعات الدولة، ما سيوفر عائدات مالية كبيرة ويجنب البلاد هزات ناتجة عن ضرب المنظومة العمومية برمتها.
بين “دروس” الجهات الدولية المانحة الحاثة على وجوب “الإصلاح” الذي يتفرع إلى كلمات جميلة من قبيل الترشيد والتعصير وتعديل الأسعـار وغيرها، وبين مواظبة بعض الأحزاب والتيارات السياسية التونسية على الـذود على المنظومة العمومية، يبدو الأمر أكثر من مجرد خلاف اقتصادي بل هو ناتج عن نظرتين مختلفتين كليا لواقع الاقتصاد والسياسة وتدبير الشأن العام.
جدير بالذكر هنا أن دولة الاستقلال في تونس توصلت عبر عقود إلى إرساء دولة تقع في المنزلة بين المنزلتين، فلا هي “اشتراكية” (وإن أضفى بورقيبة تلك الصفة على حزبه طيلة عقود) ولا هي رأسمالية صرفة (وإن أعلن ساسة تونس الاستقلال اشمئزازهم من النموذج الاشتراكي السائد في تلك العصور). كانت دولة بورقيبة تتبع نظاما اقتصاديا يقترب من الاقتصاد التدخلي، الذي يضمن أن لا يجوع المواطن ولا تشتكي الدولة.
توصلت دولة الاستقلال إلى أن تبتكر اقتصادا تتدخل الدولة بمقتضاه لحماية الطبقات الضعيفة والمتوسطة، وتوفر التعليم المجاني والصحة والضمان الاجتماعي، وتؤمن تعديل أسعار المواد الأساسية عبر منظومة الدعم. وفي هذا الإطار كانت الوظيفة العمومية المستوعب الأول والرئيسي في سوق الشغل، وكانت صلتها وثيقة بالتعليم العمومي المجاني، حيث كانت المدرسة تمثل مصعدا اجتماعيا فضلا عن دورها التربوي.
لكن مياها كثيرة جرت في العقود التي تلت مرحلة الحبيب بورقيبة، حيث تضافرت العوامل المحلية مع العواصف الخارجية في التسريع من نسق إنتاج الأزمات في تونس.
إن فهم النزوع الرسمي التونسي إلى التقليل من ثقل القطاع العام، وتبين دواعي الرفض الشعبي والحزبي والنقابي للتوجه، يقتضي الإلمام بمختلف العناصر التي أدت إلى هذا الوضع، وهي عوامل سياسية أكثر من كونها اقتصادية.
فهم المشكلة يتطلب أيضا استحضار الحلول البديلة التي يفترض أن يقدمها الرافضون. والحلول هنا لا تتناقض مع الإصلاح الذي تحث عليه الجهات الدولية المانحة، ولا تتعارض مع ما تدعو إليه الحكومة التونسية نفسها، التي أعلنت، منذ اعتلاء يوسف الشاهد رئاستها، الحرب على الفساد.
التخوفات التونسية، لا تقتصر على التوجس من الآثار المحتملة للتقليل من موظفي القطاع العام، بل تتصل أيضا بتلمس إمكانيات التخلص من المؤسسات العمومية التي تعاني صعوبات اقتصادية، وتتصل بالتعرف على ما تعانيه الصناديق الاجتماعية من إفلاس، وتتصل كذلك بما تعرفه المدرسة العمومية والصحة والنقل العموميين من اهتراء.
هل تعاني الدولة التونسية ترهلا شاملا؟ قد يتفق الجميع على التوصيف، لكن الحديث عن الحلول يعلن بدء زمن الاختلاف، هل نعالج ترهل الدولة ومؤسساتها بإعدامها وبتر أعضائها عضوا عضوا، أم نبحث عن أصل الداء، وهو الفساد بمختلف أشكاله، ونبحث عن علاجات تعيد للدولة شبابها، وهو لن يحصل إلا بالتكامل بين القطاع العمومي والقطاع الخاص، ولن يحصل إلا بالحرب الحقيقية على الفساد. حرب أعلنتها الحكومة ويبدو أنها طرحت على نفسها مهمة غير قادة على انجازها.
————————————————————————————————————–
*كاتب تونسي.