تحاليل _ تحاليل سياسية _ شالوم.. إثارة تَدَّعِي الاستقصاء.
“حين يكون المستهدف وطنا، يصبح الحياد خيانة والصمت تواطؤا”، بهذه الجملة/ الشعار يبدأ برنامج تونسي رمضاني صُنّف من قبل المتابعين على أنه من جنس الكاميرا الخفية، واعتبره معده ومقدمه (الصحافي والشاعر وليد الزريبي) أنه “عمل استقصائي لاختبار هؤلاء الناس وكشف دواخل بعض الذين يتشدقون بدفاعهم عن فلسطين ورفضهم للتطبيع الإسرائيلي”، لكن محتواه وطريقة إعداده، كما الجدل الذي أثاره بمجرد عرض الحلقة الأولى، أبعاد تستحق التوقف عندها لمساءلة هذا العمل الإعلامي، ومحاولة تبين التداخل بين الإعلامي والتجاري والسياسي في برنامج تعمد الاستفزاز منذ عنوانه “شالوم”.
الجدل الذي تعلق بالبرنامج بدأ قبل عرضه بأسبوع، على خلفية تراجع قناة تلفزيونية أولى عن عرضه، معللة تراجعها في بيان أصدرته بـأن “المادة المعروضة عليها لم ترتق إلى مستوى الجودة المطلوبة، بالإضافة إلى أن السياق الحالي الذي تعيشه القضية الفلسطينية يجعل من محتوى البرنامج استفزازا مجانيا للمشاهدين”. وأن “ما تم الترويج له في علاقة بضيوف الحلقات في أغلبه مغالطة للرأي العام، خاصة وقد تبين بعد مشاهدة أغلب الحلقات أن المشرفين على البرنامج حاولوا الإيهام بأن ضيوفهم وقعوا في فخ الكاميرا الخفية في حين أن الأمر غير ذلك، وهو ما يعدّ مغالطة في حق أغلب الضيوف علاوة على مغالطة المشاهدين”.
تراجع أجبر الجهات المنتجة للبرنامج على الهجرة به صوب قناة أخرى، وافقت على عرضه ولا شك أن الدوافع التجارية وراء العرض معروفة. وتقوم فكرة البرنامج على استدعاء شخصيات سياسية أو رياضية أو فنية أو إعلامية، إلى فيلا حيث يعقد اجتماع مع حاخام إسرائيلي يقول إنه يمثل المجتمع المدني الإسرائيلي (يقوم بالدور ممثل تونسي يرد اسمه في الجينيريك) يقدم للضيف عرضا ماليا سخيا مقابل التعاون مع إسرائيل أو الاعتراف بها أو زيارتها (حسب طبيعة الشخصية ونشاطها)، وهنا يُستفزّ الضيف ويتم التركيز على ردّ فعله أو تصرفه ليتم بذلك استخراج “موقفه” من القضية ومن إسرائيل.
برنامج شالوم لا صلة له بالقضية الفلسطينية، ولا علاقة له برفض التطبيع أو تجريمه، وهو عمل لا ينتمي للصحافة الاستقصائية وإن ادَّعَى صاحبه ذلك.
واضح أن البرنامج برمته يقوم على الخدعة وعلى فكرة الاستدراج، وكأنه يضمرُ إمكانية سقوط الضيف في مطب الاعتراف بإسرائيل الذي يتخذ في هذه الظروف حساسية مضاعفة. البرنامج يجعل الضحية “متعاونا محتملا” مع إسرائيل ويظلّ مطالبا بإثبات العكس أو تحمل ذلك الوصم، ولذلك فإن القضية هنا لا تشمل التطبيع من عدمه بل تذهب أولا إلى أخلاقيات العمل الإعلامي في أساسه ومنطلقه.
البرنامج يضع مسلمة مفادها أن الضيف مطبّع ومعترف بإسرائيل، ثم يشرع في إثباتها، ولعل التصريحات التي أدلى بها معدّ البرنامج ومقدمه، قبل عرضه حين قال “لقد استضفنا مجموعة من الأسماء الفاعلة في المشهد السياسي، التي تدعي عداءها لإسرائيل، أسماء كبيرة سقطت في فخ الخدعة، وقبلت التعاون مع إسرائيل”، تؤكدُ أن البرنامج يقوم على فكرة الاصطياد المبني على مسلمة جاهزة (تؤكدها الجملة الشعار الواردة في جينيريك البرنامج التي أشرنا إليها)، وهو أيضا ما أعاد إشكالية تصنيف البرنامج؛ هل هو من صنف الكاميرا الخفية بما تتقصده من فرجة؟ أم من جنس العمل الاستقصائي الذي يذهب نحو غاية الكشف عن الخبر أو المعلومة ويتخذ منهجية عمل وبحث أكثر صرامة؟ وهل أن كشف المطبعين أو فضحهم يحتاج برنامجا من هذا القبيل؟
الواضح أن الإثارة الإعلامية كانت طاغية على فكرة البرنامج وفلسفته، خاصة في هذا الشهر الذي ترتفع فيه نسب المشاهدة التلفزيونية وترتفع فيه تبعا لذلك نسب وعائدات الإعلانات.
الاستتباع الفكري والسياسي الذي يمكن التقاطه من برنامج شالوم، هو أنه حاول طرح قضية التطبيع من خلال مادة إعلامية مغايرة، تبتعد عن الحوارات أو المناظرات، بل تتعمد حفر الجب ثم تسعى إلى دفع الضيف ليقع فيه، لكن الأعمق من ذلك والأخطر هو أنه يكرس ضمنيا تطبيعا مع التطبيع، إذ أن مراحل الاستدراج والاستفزاز والتخويف والتهديد، فضلا عن تسريب أفكار أن إسرائيل تعرف كل شيء عن الضيف، هي كلها عناصر تتضافر لتقدمَ للمشاهد مادة تسطّحُ القضية وتبتذلها وتحولها بفعل التكرار إلى مسألة يومية.
برنامج شالوم لا صلة له بالقضية الفلسطينية، ولا علاقة له برفض التطبيع أو تجريمه، وهو عمل لا ينتمي للصحافة الاستقصائية وإن ادعى صاحبه ذلك، وهو أيضا دون فكرة الكاميرا الخفية في منطقها الفرجوي الباحث عن المتعة والتخييل، بل هو عمل اعتدى على أخلاقيات العمل الإعلامي وكرس الانقسام السياسي بين التونسيين، وتعمد الانتقائية في اختيار ضحاياه، وحاول تكريس فكرة أن الضيف مطبع إلى أن يثبت براءته.
______________________________________________________________
*عبد الجليل معالي | كاتب وصحفي تونسي.