تحاليل _ تحاليل سياسية _ ماذا يعني اعتقال الغنوشي ضمن الصّراع في المنطقة؟|فراس أبو هلال*
لا يمكن فهم اعتقال رئيس البرلمان التونسي المنتخب راشد الغنوشي بتهم ملفّقة تتعلّق بالتّحريض على الحرب الأهلية، إلّا إذا وُضِع ضمن الصّراع الذي يدور في المنطقة العربية منذ بداية الانتفاضات الشّعبية نهاية عام 2010.
لم يكن الصراع بالطبع قد ابتدأ حرفيا في تلك اللّحظة. فقد كانت الانتفاضات مجرّد تعبير أكثر شمولية عن صراع مستمر منذ نهاية الاستعمار، بين أنظمة فقدت شرعيتها وفشلت في تحقيق مهمّات الدولة الأساسية؛ وبين شعوب تسعى لتحقيق مطالبها المشروعة من كرامة وحرية واقتصاد أكثر عدالة.
استطاعت الشعوب، أو هكذا تخيّلنا، أن تنتصر في الجولات الأولى للانتفاضات في تونس ومصر وليبيا، وتعثرت في سوريا واليمن، وحققت أهدافا موضعية في المغرب والأردن، قبل أن تتمكّن الدولة العميقة/ العقيمة في معظم البلاد العربية من أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل كانون الأول/ ديسمبر 2010.
ولكن لماذا تحتاج الدولة العميقة في تونس أن تُنَكِّل بالثمانيني المنتخب راشد الغنوشي وغيره من المعارضين؛ وقد أنهت بالفعل المسار الديمقراطي عبر انقلاب قيس سعيد في تموز 2021؟
لا شكّ بأنّ السّبب الرّئيسي لذلك هو إنهاء الصراع بالضربة القاضية، وحتى يتمّ ذلك فلا بدّ للسّلطة أن تُنْهي القوى التي لا تزال تقارع الاستبداد والانقلابات، وأن تُظهِر أنّها لا تتسامح معها أو تتقبّل أيّ نوع من المعارضة والنّقد.
كانت تونس أوّل المنتصرين في الجولة الأولى من الثّورة، وآخر المنهزمين أمام تيار الثورة المضادّة وتحالف السّلطة والثّروة في الدولة العميقة. ولذلك يُراد لها أن تكون عبرة للشعوب العربية في الجولة الحالية، كما كانت إلهاما لها في الجولة الأولى.
وحتى نضع الحالة التونسية أكثر في سياق الصراع بالمنطقة، فينبغي النظر أيضا للحالات الأخرى: تنكيل واغتيال فعلي وقتل مؤقّت للسياسيين المنتخبين في مصر ابتداء من الرئيس محمد مرسي رحمه الله وليس انتهاء برئيس البرلمان وعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين لم يعودوا يشكّلون خطرا على النظام الانقلابي الحاكم، إنهاء كامل لمظاهر الثورات في اليمن وسوريا، تأبيد الانقسام العسكري والسياسي في ليبيا، إخراج الإسلاميين وإذلالهم عبر الصناديق في المغرب، وغيرها من مظاهر الانتقام السياسي والتشفي بمن تجرّأوا على المطالبة بالتغيير.
هذه هي الصورة الشاملة إذن، محاولة السّحق الكامل بأدواته الخشنة والناعمة لكلّ التيارات المعارضة للمنظومة القديمة في كل الدول العربية.
وبسبب ترابط دول وشعوب المنطقة العربية، فإنّ من المنطقي توقّع وجود أياد خارجية في كل دولة تحارب ما تبقى من مسار الانتفاضات الشعبية. وإذا كان من غير الممكن تأكيد نوع هذه التدخلات بدون أدلة واضحة، فإنّ التحليل السياسي المبني على تجربة السنوات الاثنتي عشرة السابقة يقود إلى استنتاج شبه مؤكّد بأنّ “الثّورة المضادّة” هي الفاعل الوحيد الذي عمل بشكل عابر للحدود، لأنّ المنظومة التي تحكم الدول العربية منذ نهاية الاستعمار تؤمن بأنّ نجاح أيّ ثورة في أيّ دولة هو خسارة لها في جميع الدول، حتى لو كان بينها خلافات سياسية أو أيدولوجية. وبهذا المعنى، فإنّ هذه المنظومة، حتى لو ادّعى بعضها، الوقوف مع هذه الثورة أو تلك، هي في الحقيقة لم يكن هدفها النهائي نجاح أيّ ثورة، بل تخريبها عبر طرق كثيرة من بينها العسكرة كما حصل في سوريا مثلا، أو تعزيز الانقسامات كما حدث في ليبيا، أو تغذية الحرب بين القوى العسكرية كما يحدث اليوم في السودان.
اعتقال الغنوشي إذن لا علاقة له بشخصه أو بأدائه السياسي أو حتى بانتمائه لما يسمي “الإسلام السياسي”، ولكنه جزء من الحرب المشتركة التي تقودها المنظومة الحاكمة في دول المنطقة مع ما تبقى من تيارات رافضة للاعتراف بالانتصار النهائي للثورة المضادة.
إذا فهمت التيارات السياسية في تونس هذا الصراع، فإنّها يجب أنْ تقف ضدّ اعتقال الغنوشي أو أي معارض، وإذا أصرّت أنْ تسير بنفس المسار الذي اتخذته معظم التيارات السياسية في تونس وغيرها من الدول العربية التي انتمت في وقت ما للثورات الشعبية وانحازت في وقت آخر للدولة العميقة في مواجهتها مع خصومها السياسيين، فإنّ هذا لن يطيل اعتقال الغنوشي فقط، ولكنّه سيساعد الثّورة المضادّة على إنهاء صراعها مع الشعوب العربية بالضّربة القاضية!
* ياسر أبو هلال | كاتب فلسطيني.