تحاليل _ تحاليل سياسية _ مشاكلنا بين الإعلام والانتماء وأدب الحوار |بقلم: الأستاذ محمد الحبيب الأسود.
المشهد الإعلامي اليوم في تونس، وإن كان يتمتّع بالحرية إلى حدّ التخمة، إلّا أنّه في كثير من فضاءاته وخاصة منها صفحات الفايسبوك، سقط في متاهات التشكيك والسباب والتقاذف والتعيير والتشهير والنيل من الأعراض، والتكفير والتخوين، والكل يشتم الكل، والكل متوتر ضد الكل، وأصبحت الضجة سمة الحوارات والنقاشات، ضجة على غير هدى ولا كتاب منير، فلم تثمر حوارا ولا إقناعا ولا توافقا تحتاجه مصلحة الوطن… والغريب أن كل المواضيع المطروحة على الساحة الوطنية، صغيرها وكبيرها، والتي تحتاج في معالجتها الرصانة والعقلانية والتوافق والاختلاف الذي بكثرة الآراء فيه وتنوّعها نضمن لاختياراتنا أكثر وفرة للصواب والاهتداء إلى أقرب طريق يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة…كل المواضيع يصل فيها التجاذب إلى حد تهديد أمن البلاد والعباد ووضع مصلحة الوطن في خطر… مشاكلنا تتكاثر وتتراكم في كل القطاعات، والكل ينظر إليها بالقدر الذي يخدم به مصلحة انتمائه وحزبه، وربما نظر إليها من زاوية مصلحة شخصية لا علاقة لها بالانتماء والحزب، ويوظفها كيفما يشاء لاتهام خصومه بالتقصير والفشل… العمل الإرهابي الذي يهدد أمننا القومي قد خلط الأوراق بين من يمارس السياسة بمرجعية حداثية إسلامية ومن يمارس الإسلام بمرجعية إرهابية… منظومتنا التربوية بلا هوية وتعاني من الأمية الحضارية… قيمة الدينار التونسي تتدحرج أمام الدولار… اختلال الميزان التجاري يتفاقم… التضخم المالي في ارتفاع… الهوة تتسع سلبا بين الإنتاج والاستهلاك، بين التوريد والتصدير… نسبة النمو تنكمش وتتقلص…انهيار مستمر في الطاقة التشغيلية للمؤسسات… التهرب الضريبي ينهك ميزانية الدولة… البلاد على حافة الإفلاس… هذه هي حقيقة مشاكلنا الحالية، مع عجزنا عن معالجتها بشكل فوري، زد على ذلك الشلل الحاصل في دورة إنتاجنا نتيجة الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات والمطالب ألا متوازنة للترفيع في الأجور وزيادة الحوافز... إن الحراك الإعلامي الموازي على صفحات الفايسبوك له القدرة على النفاذ إلى فئات عديدة متنوعة الثقافات والعقول والأمزجة والتكوين، والمتصفحون للفايسبوك أكثر بكثير من المتصفحين للجرائد والصحف اليومية، وإن لعب هذا الإعلام الموازي دورا إيجابيا في تثوير الناس ضد الاستبداد، وكانت له قدرة عجيبة على إنزال الشباب إلى الشوارع لمواجهة آلة القمع الرهيبة، فإنه بعد انكماش الحراك الثوري لصالح الفعل السياسي، وفي هذه المرحلة الحساسة من الانتقال الديمقراطي، نراه يساهم بقدر كبير في شحن الاحتقان بين التونسيين، وتغذية التعصب الحزبي والإيديولوجي على حساب القيم الوطنية العليا، مما يهدد علاقاتنا الاجتماعية بالعنف المادي واللفظي، ويقوّض وحدة نسيجنا الاجتماعي، فقد بدأ الشباب على هذه الصفحات يستبدلون التعصب الديني المقيت بالتعصب الحزبي الممقوت، والولاء للوطن بالولاء للأشخاص، فعميت بصائر الكثير منهم عن مصلحة تونس، وولج الكره إلى قلوبهم ضد كل من يخالفهم الرأي أو الفكرة أو المعتقد، وغلبوا المصلحة الخاصة الضيقة على المصلحة العامة الشاملة، وبدأت تتناحر الانتماءات، ونسي الكثير منهم أن الانتماء الأكبر والجامع لكل التونسيين هو تونس بأرضها وشعبها وسيادتها ودينها وتاريخها وحضارتها، وبدأت تتسلل من ثنايا الحرية لغة بديلة عن لغة التحاجج والجدال بالحسنى، لغة العنف والعنف المضاد…إن الحركات السياسية والأحزاب، والمنظمات والجمعيات المدنية، شأن عام، ولها تأثير في كل جوانب الحياة التونسية بالسلب والإيجاب كما بالرفض والقبول، وقادتها شخصيات عامة، ليس لهم أن يعتبروا سلوكهم السياسي ومواقفهم الحركية شأنا خاصا لا دخل للناس فيه، وعلى أنصار هذه المكونات السياسية والاجتماعية إن أرادوا خيرا لوطنهم ومن ثم لحزبهم وجماعتهم أن لا يصطفوا آليا وراء مواقف قادتهم إذا بان للرأي العام خطؤها، وعليهم بالنصح، والنصيحة تكون في النجوى للخاص، وفي العلن للعبرة والاتعاظ لمن كان شأنه شأنا عاما، ولهم أن يدافعوا عن هذه المواقف بالحكمة والموعظة الحسنة إن رأوا فيها الصواب، وأن لا يحاجوا الناس في السياسة بالنصوص المقدسة والقرآن، فالقرآن حمّال أوجه، وليس لهم أن يغلبوا تفسيرا على تفسير، فلا عصمة في السياسة ولا ضابط لها إلا ما يذهب إليه أصحابها من مراعاة للمصلحة العامة وجلب الفوائد ودرء المفاسد، والكل فيها راد ومردود عليه، وإلا كان ذلك خللا في التكوين الفكري والسلوكي والسياسي وعيبا أخلاقيا لمن يتعامل مع الشأن العام بالأخذ والعطاء… فالرأي يُناقش بالرأي، والقول يرد بقول أحسن منه، والسب والشتم والتشكيك والاستهزاء والتنابز والتخوين والتكفير لا يثمر حوارا ولا يقدّم إفادة لأحد، ولا يصلح رأيا فاسدا، بل مثل هذا السلوك يسرع بانهيار المصداقية والوجاهة السياسية لأي تنظيم وحزب…