تحاليل _ معركة الوعي.. أهي حقّا معركة؟
من حيث المبدأ، وفقط كي يكون القارئ على بصيرة، وليس كمصادرة أو إقصاء؛ لستُ من المؤمنين بما يسمى معركة الوعي، ولست من المعولين عليها تعويلًا حقيقيًّا. العالم الذي خُلقنا فيه لا يتغير إلا بالقوة، لكن تلك القوة هل يمكن أن ينتجها الوعي؟ الإجابة: وحده دون قوة أيضًا لا.. يمكن أن تؤثر بالوعي وحده على موضع قوة، فتقدر على التأثير بالقوة.
ربما أتفق مع نيتشه حين قال في “اعتباراته اللاوقتية” أن كل فلسفة معاصرة هي إما سياسية أو بوليسية. وبما أننا نتكلم في مشكلات ذات طابع سياسي، شئنا أم أبينا، مهما بدت فكرية أو نظرية؛ فليكن الكلام بالتصريح: موضع القوة الذي نتحدث عنه كعامل جوهري في التغيير قد يكون بؤرة قوة حساسة تغير المعادلات، بناء على قناعات أو أهواء محضة أو مزيج بينهما وهذا هو الغالب، وقد يكون شريحة هائلة عصية على القمع والخداع، ويكون الدور الأساس لها في الحقيقة أن تجتذب بؤرة القوة الحساسة سابقة الذكر أو التأثير في جناح فاعل منها.
لكن يجب أنك لاحظت -على كل حال- أن إنتاج هاتين الحالتين للتغيير قد رجع إلى القوة، وأن تحققه كان أمرًا استثنائيًّا حصل في التاريخ لبعض الأنبياء وبعض الملهمين. لم تكن معركة جماهيرية بالمقام الأول إذن. ولا هي خطاب ضرورة سيحقق نتيجة لولاها لما تحققت.
أما الحقيقة الصلبة، التي تسيِّر مجريات الحياة الدنيا التي نعيشها، وهي قانونها وناموسها وسنتها فإنها تتلخص في مجموعة الحقائق الإنسانية البسيطة الساذجة، التي ربما كافح الكثيرون نظريًّا للاعتراض عليها، لكنهم أنفسهم ظلوا خاضعين لسلطانها، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: القوة تحكم، لا المبدأ، الفلوس أهم شيء، الرجال يحبون المرأة الجميلة أكثر من العاقلة، ونحوها من الحقائق الإنسانية التي عندما تتجاوزها الأيدولوجيات أو تعاندها أو توظفها خطأ تسقط.
كذا هذه الحقائق كائنة، بقطع النظر عما ينبغي أن يكون. الأيدولوجيات الفاعلة والمؤثرة -حتى المؤمنة منها ببُعد غيبي- تتفاعل مع هذه الحقائق لتكييفها قيميًّا أو احتوائها تحت منظومة فكرية ما، وليس للسعي لتغييرها كليًّا، إلا إن تخلت عن عقلانيتها وأصبحت مجرد أيدولوجيات ضبابية الهدف، أو خاوية المضمون، أو يوتوبيا، أو خرافة.
إذن.. لست مؤمنا بقضية معركة الوعي بصورة كبيرة؛ لأن الطبقات الكبيرة العريضة ليست فاعلة بدون قوة عسكرية، والطبقات الضيقة المؤثرة ليست خاضعة لميكانيزمات ما يسمى بإصلاح الوعي أصلًا، لأنها إما هي التي تطرح ما يسمى -خيالًا أو تجريدًا- بالوعي والرأي العام، لخدمة مصالحها الخاصة، وإما أنها منجذبة لنفس الوعي العام ولكن بطريقة برجماتية.
القوة -في صورتيها المذكورتين سابقًا- قد يؤثر عليها الوعي، ولكنها غالبا ما يؤثر عليها الهوى والمطامع. والأكثر خطورة أن ما يؤثر عليها يؤثر عليها بأدوات لا تملكها أنت غالبًا، أو لا يتيح لك نظامك القيمي أن تستعملها. ينبغي أن تؤمن بهذه الحقيقة، أو تغادرنا وتعيش في عالم آخر غير عالمنا.
ولكن مهلًا. قبل أن نقرأ معركة الوعي.. ما المقصود بالوعي؟ وأي شيء ذلك الذي ينبغي أن نعيَه؟
من الواضح أن المستوى الأول الضروري للوعي ينبغي أن يكون الوعي بالنفس (سؤال الهوية)، والوعي بالموقع؛ موقع تلك النفس في عوالمها المختلفة، ودوائر تأثرها وتأثيرها.
على مستوى الوعي بالنفس.. هل نحن واعون بأنفسنا حقًّا؟ ليس الوعي بالنفس مجرد معرفة آخر إحصاءات موازنات الحكومة، أو معرفة تعداد المواليد والوفيات، أو ترتيبنا الاقتصادي أو الحقوقي في تقرير منظمة ما، كما يحاول بعض الراديكاليين إقناعنا. هذا مجرد مستوى معلوماتي، لا يمثل وعيًا بالنفس قدر ما يمثل رصدًا -معزولًا في كثير من الأحيان عن التعليل السببي- لمشكلة ظرف زمني تحياه تلك النفس.
من الصحيح أنه لم تنشأ مشكلة الهوية في تاريخنا الإسلامي إلا مع التخلف، التخلف الذي ترسخ في العصر الحديث، وبخاصة ما بعد القرن العاشر الهجري، وإن كانت عوامه قد ترسخت منذ الاجتياح التتري لعقر دار الإسلام، الذي مثّل بصورة أو بأخرى الإيقاف الفعلي لحركة الإسلام في التاريخ، فظهرت بعدها منظومات فكرية كاملة تخللت الإسلام عقَديًّا وتشريعيًّا وأخلاقيًّا وغيّرت كثيرًا، وعلى نحو غير مسبوق؛ من معالمه، التي ظلت عصية -ولو بصورة نسبية- عن التأثر بالانسلاخ القيمي المبكر الذي أصاب سياسة الحكم الفوقية في الإسلام منذ العصر الأموي، مما أحدث نوعًا من الاغتراب الداخلي عند المسلمين.
ذلك التخلف المدوِّي متعدد الوجهات انتظر الإعلان الفجّ مع صدمة الحداثة التي صاحبت بواكير الغزو الأوروبي للعرب في صورة الغزو الفرنسي لمصر، حينها بدأ العربي ينظر إلى الآخر المختلف على صفة جامعة بين البغض والإعجاب، بحضوره الحضاري والعلمي الطاغي الذي قابل وضعية إسلامية متضعة لا تتمتع بقدر معقول من المناعة الذاتية كما كان في السابق. فبدأ العربي يبحث عن تعريف لنفسه كي يحدد موقفه من الآخر الملتبس هذه المرة. نحن نحن بقدر ما لسنا الآخر. لم يجد إجابات واضحة على أسئلته، بدأ يبحث في التراث تارة -التراث أعم من الدين- وعند الآخر تارة، في الحياة السياسية والاقتصادية، في العدالة والرفاه وأي قيم كونية أخرى، يمكن أن تحقق له هوية، خاصة، أو عامة، أو مختلطة انتقاءً أو بفعل القسر الطبيعي. التخلف قادنا للنظر في هويتنا بعين السبر والتحقق، وليست الهوية -بالضرورة- هي التي قادتنا إلى التخلف.
ما الذي أمكن تقديمه حول مشكلة الهوية والآخر، وطبيعة العولمة والخصوصية، من جانبنا، بقطع النظر عن الشعاريات، والحلول الراديكالية غير المجدية؟ ما الوعي الذي ينبغي تقديمه لشرائح اجتماعية وعمرية ما، دون التحقق من الوعي الذاتي أولًا، ومعرفة منطلقاته، ومحدداته، وغاياته، كي يمكن أن ننشر وعيًا به وبوسائله؟
هل لاحظت -مثلي- أن عديدًا من المفكرين والفلاسفة العرب المبرزين، قد يمارسون أشد أنواع الدوغمائية والتعصب والتهاتر حين ينزلون من مستوى التحليلات النظرية إلى مستوى الفلسفة كفعل يومي -فلسفة الحياة اليومية ربما كما عبّر التريكي- إلى مستوى الحياة السياسية والشؤون الاجتماعية والثقافية؟ هل رأيت فيلسوفًا يتناول الشأن العام كردَّاح يقطع ثياب زميله في حارة شعبية؟، هل رأيت مفكرًا ينظِّر لمجرم حرب ويعتقد أنه الضرورة والخلاص؟ هل رأيت دينيّا تحول لتاجر شنطة وعرَّاب بائس لخيارات سياسية شاذة عن مقتضى كل قيمة وخُلق؟ ليست المشكلة في مقدار التنور المعرفي أو الموقع الاجتماعي إذن، مادام هذا الوعي بالنفس غائبًا.
الوعي؟ بالمشكلة أم بالذات؟ أيهما سابق وأيهما لاحق؟
تبدأ المشكلات واقعية، ثم تغدو نظرية فلسفية. يتم (أكلمتها) كما قال أركون -الغارق في التاريخية هو الآخر- يومًا. أحيانا تصير المشكلة واقعية لأننا قصرَّنا في التعامل معها نظريًّا، ولكنها غالبا تصير نظرية لأننا بالفعل أردنا أن نجعلها نظرية، بدلًا من مواجهتها واقعيًّا. ولم يكن النظري إلا حجابًا يستر ذلك. فلنحارب في مجال الوعي كي يتغير الواقع يا صحاب. يبدو هذا مريحًا للغاية.
————————————————————————————————————
* عمرو بسيوني.