تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ الإسلام النائم: الصوفية والسياسة في المشرق العربي. |بقلم: محمّد تركي الربيعو*.
ينبّهنا الباحث البلجيكي توماس بيريه في سياق قراءته للمناظير الأكاديمية الغربية حول الظاهرة الإسلامية، إلى أنّ هذا الوسط لطالما بدا منذ السبعينيات أكثر اهتماماً بالجانب السياسي من نشاط الحركات الإسلامية، ما ساهم في تجاهل النشاط «الإسلامي اللّاسياسي» المتمثّل في دور العلماء والحركات الصوفية. وهو توجّه يرفضه بيريه انطلاقاً من أنّ هذا الدور اللّاسياسي في سوريا لعب الدور الأبرز على مستوى أسلمة الحياة اليومية في سوريا منذ ستينيات القرن الماضي.
ورغم هذه الملاحظات والرؤية الجديدة لدور العلماء والجماعات الصوفية داخل الوسط البحثي الغربي، إلّا أنّ المتابع لما ينشر من دراسات بحثية داخل المشرق العربي يلحظ غياباً كاملاً لهذه الأجندات والمقاربات البحثية لدى أغلب العاملين في هذا المجال، إذ ما تزال الرؤية لدور العلماء والجماعات الصوفية غالباً ما تنطلق من حسّ ومسلّمات تشكيكية بهذه الجماعات، بوصفها جماعات مهادنة، حليفة أو أدوات بيد السلطة، ورغم وجاهة هذه الرؤية جزئياً، مع ذلك بقيت غير قادرة على فهم منطق العلماء أحياناً، وهو منطق بعيد عن منطق «المثقّف المسلم السّاخط» على حدّ تعبير جيل كيبل. فالعلماء يعتقدون أنّ العلمانية لا السلطوية هي العائق الأساسي في سبيل تحقيق أهدافهم في أسلمة المجتمع، ولذلك فهم يفضّلون التفاوض على المواجهة، بعكس رؤية الناشطين الحركيين الإسلاميين الذين يسعون إلى إحداث تغييرٍ بنيوي وإلى المشاركة في احتكار العنف الشرعي.
غير أنّ هذا القصور في قراءة تاريخ العلماء والجماعات اللاسياسية، لا يمكن أن نعزوه وحسب إلى قصورٍ في فهم هذا الدور، بل أيضا يعود إلى كون الساحة المشرقية العربية لم تشهد مقاربات منهجية بديلة كالتي شهدتها مثلاً الساحة المغاربية في دراسات التصوّف وطقوسها والمقدّس الإسلامي ودلالاتها الاجتماعية والسياسية. فالصورة التقليدية من قبل الإسلاميين وحتى العقلانيين العرب ترى هذه الحركات بوصفها حركات لاعقلانية، وأنّه لا يمكن القيام بأيّ حركة إصلاحية إسلامية أو تنويرية دون القطيعة مع رؤية هذه الجماعات، ما انعكس في إهمال دراسة رؤية هذه الجماعات والتحوّلات التي شهدتها في القرن العشرين.
ولذلك وفي ظل هذا الفقر في تجديد الأدوات والمنهجيات (إذا استثنينا بعض المحاولات النسوية التي نشرت مثلاً في الكتب السنوية التي يصدرها «تجمع النسويات اللبنانيات» أو بعض الجهود المصرية مثل كتاب «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر» للكاتب عمار علي حسن تبقى الجهود الغربية أغنى بكثير في هذا الجانب (كما مثلاً في دراسة توماس بيريه المعنونة «عرض سلطة العلماء: الاحتفالات بالمولد النبوي في سوريا» وهي من الدراسات القليلة والنادرة التي اعتمدت على البحث الإثنوغرافي للطقوس الصوفية داخل سوريا، أو دراسة الباحثة الفرنسية آنا مادوف حول الاحتفالات والطقوس الصوفية وإعادة ترتيب المدينة).
وغالباً ما كانت الدراسات التي تُنشر حول التصوف في المشرق العربي تركز على السياسي وتقع غالباً كما ذكرنا في خطأ الرؤية التقليدية أو المتسرعة التي تربط بين هذه الجماعات والسلطة السياسية، بوصفها علاقة عضوية، ورغم هذه الملاحظات فإن ما يحسب لهذه الدراسات هو أنها أخذت تعمل على إكمال صورة المشهد الديني/الاجتماعي من خلال التعريف بالتاريخ المهمش (على مستوى الكتابة والأجندات البحثية) للجماعات الصوفية، وهو ما قد يفسح المجال لاحقاً لدراسات أكثر عمقاً. وكمثال عن هذه المحاولات يمكن أن نشير هنا إلى كتاب «الإسلام النائم: التصوف في بلاد الشام» مركز المسبار، الذي يضم عدداً من الدراسات التي سعت إلى التعريف بتاريخ الطرق الصوفية في أربعة بلدان مشرقية (فلسطين والأردن ولبنان وسوريا)، ورغم أن الهيكل المعماري للكتاب لا يحتوي على أي دراسة لباحثين في حقل السيسيولوجيا والأنثروبولوجيا الدينية، كما أنه لا يسعى إلى فهم بعض التحولات التي شهدتها الجماعات الصوفية من الداخل بشكل مشابه لما فهمه بعض الباحثين الغربيين (مثل دراسة الباحث السويدي ليف ستنبرغ «أسلمة حي: تراث أحمد كفتارو في سوريا» التي حاول من خلالها دراسة مسألة «توريث البركة» داخل المجمع، الذي سعى بعد وفاة مؤسسه كفتارو إلى «تقنين» هذا التوريث استجابة للتغير العام في المجتمع السوري)، كما أن مقاربة الكتاب بقيت مشدودة لمعادلة «السلطة/العلماء» التقليدية؛ مع ذلك لا بد من الثناء على الجهد المبذول كونه يساهم في إعادة إكمال صورة المشهد الديني، بدل التركيز كما أشار – توماس بيريه – على نشاط الحركات الإسلامية (الإخوان والسلفيين).
ففي دراسة تحت عنوان «مسار التصوّف في الأراضي الفلسطينية» تحاول الباحثة الأردنية نادية سعد الدين بحث موقع الجماعات الصوفية في الأراضي الفلسطينية، وعلاقتها بالحركات والتيارات الفاعلة فيها، إذ رأت الصوفية في منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ونسجت مع رئيسها الراحل ياسر عرفات بعد دخوله الأراضي المحتلة لأول مرة عام 1994 إبان اتفاق أوسلو علاقات «ودية طيبة تتقاطع مع الإيمان المشترك بالعقيدة الأشعرية» وفق قول سعد شرف – أحد مشايخ الطريقة القادرية في الضفة الغربية المحتلة – دون الالتفات إلى الوجه العلماني الغالب على الحركة. وبعد سيطرة حماس على غزة نظرت الصوفية إلى هذه الحركة بوصفها «انقلاباً على الحاكم» كما انتقدت «غلبة المصلحة الحركية لديها على الدين». كما أخذت بعض الطرق الصوفية مثل الطريقة المحمدية في غزة، تتعرض للتضييق ومحاصرة الحركة والنشاط إلا أن هذا التعامل لم يدفعها إلى التمرد أو الصدام، كما أن شيوخها ظلوا مقتنعين بضرورة عدم مغادرة القطاع، انطلاقاً من موقف عقيدي يستوجب «إعمار الخراب» القائم حالياً في غزة.
ويتطرق محمد العواودة في دراسته «الصوفية في الأردن: استراتيجيات تقليد أم تكتيكات إصلاح» إلى تاريخ الصوفية منذ عهد تأسيس الإمارة الأردنية، عندما قدم مع الأمير عبد الله بعض المشايخ وانشأوا المؤسسة الدينية، وكان أغلبهم ممن ينتمون إلى السلفية الإصلاحية القريبة من الصوفية مثل الشيخ كامل القصاب، وفؤاد الخطيب والشيخ أحمد الدباغ وحمزة العربي. ومع بداية الستينيات أخذت الجماعات الصوفية تعيش حالة من الانكفاء والتراجع أمام زحف برامج الإخوان المسلمين ولاحقاً التيارات السلفية، وقد استمر هذا الأمر ـ وفقاً للباحث – إلى أن أخذت الساحة الإسلامية تشهد تراجعاً، ما أفسح المجال من جديد لعودة التصوف إلى الساحة الاجتماعية، لكن بمظاهر تحديثية لافتة، تمثلت باشتراكها بعدد من المواقع الإلكترونية والإذاعية والفيسبوك، والمنتديات الصوفية عبر الإنترنت، وأصبحت هذه المواقع بمنزلة البوابة الصوفية لنشر الفكر الصوفي، وقنطرة للعبور نحو الآخر من الداخل والخارج.
أما عن «منزلة السياسة لدى الطرق والتيارات الصوفية في لبنان» فيتطرق الباحث اللبناني محمود حيدر في هذا السياق إلى تجربة جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية ذات الخلفية الصوفية، التي تُعرف بـ»الأحباش»، والتي خلافاً لباقي التيارات الصوفية الأخرى في لبنان قاربت العمل السياسي على نطاق واسع، سواء عبر خوضها للانتخابات النيابية منذ عام 1992 (بُعيد الحرب الأهلية في لبنان) أو على صعيد مواقفها وتحالفاتها، التي بدت في كثير من الأحيان ذات طابع حاد، حيال مسارات الصراع والاحتدام الداخلي في لبنان، وهذا ما أدى إلى ظهور خلافات عميقة بين الأحباش والجماعات الإسلامية من جهة ومع دار الإفتاء من جهة أخرى، وقد ظهر هذا الخلاف إلى العلن عبر وسائل الإعلام ما زاد الاستقطاب داخل الطائفة السنية إلى حدوده القصوى، فقام تنظيم عصبة الأنصار الإسلامية السلفي بزعامة أحمد عبد الكريم السعدي الملقب بـ “أبي محجن” باغتيال رئيس جمعية المشاريع الشيخ نزار الحلبي أمام منزله في بيروت سنة 1995.
وبالنسبة للعمل السياسي، ينظر الأحباش إليه بوصفه إعلاناً عن الذات في وعي الجماعة ضدّ الاآخر المختلف، أكثر مما هو تعبير عن خطاب سياسي محدد وواضح المعالم. والأحباش في عملهم السياسي يردّون ما يقومون به إلى الشريعة بوصفه واجباً دينياً، بل يرتكز على حكم الضرورة، ويتمثل هنا بحماية الجمعية ومواجهة الخصوم، وبذلك تنعكس في عملهم هذا صورة وعي «علماني» في علاقة الديني بالمجال السياسي، مع نزولهم إلى حكم الضرورة في المعاش وأطراف الاجتماع، ضمن مفهوم حب الوطن وخدمة الوطن وبنائه.
من هنا لا يتضمن خطاب الأحباش المتعلق بالسلطة السياسية في لبنان أي توجه نحو إقامة نظام حكم إسلامي، أو تشكيك في مشروعية الدولة، ويعتبرون أن السعي لإنشاء جمهورية إسلامية هو أمر بعيد عن معطيات هذا البلد. وفي مقابل هذه الرؤية التي يكررها الأحباش في كل مناسبة، تقف السلطة منهم موقفاً إيجابياً يتضح من حضور السلطة الدائم والتشاركي في احتفالات الجمعية، ودعمها لهم في محطات كثيرة.
أما عن مواقف الأحباش من أطراف الاجتماع اللبناني وطوائفه وجماعاته وأحزابه، فهي مختلفة ولا تستوي ضمن صعيد واحد، فإذا كانت العلاقة بالدولة تقع في مستوى الخدمة، فإنها تقع مع الطوائف والأحزاب السنية في مستوى الموادعة، فيما تصعد إلى مستوى الصراع مع الداخل الإسلامي الخاص، ممثلاً بالطائفة السنية. ويأتي موقف الموادعة في العلاقة بالأطراف المسيحية انطلاقاً من مفهوم الوطنية والمواطنة والتعايش الحسن، كما ينسحب الشيء ذاته على العلاقة بحركة أمل الشيعية، وهي علاقة قوية وهناك تنسيق في كثير من المجالات، إلا أن علاقة الموادعة مع الطائفة الشيعية تتحول إلى مداراة مع حزب الله، فالعلاقة به هي علاقة عادية لا علاقة تحالفات سياسية وتكاد تكون باردة في أحيان كثيرة كون «حزب الله» يقع برأيهم ضمن الحركات الأصولية التي تناهضها جمعية المشاريع.
وفي جانب آخر من الكتاب، يحاول الباحث الجزائري عبد الصمد بلحاج في دراسة «الصوفيون والإخوان المسلمون في سوريا- البوطي ومدرسته» دراسة العلاقة بين الطرفين مع وصول حزب البعث إلى الحكم سنة 1963، إذ مهدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبناها حزب البعث الحاكم في الستينيات، بالإضافة إلى السياسات الأمنية المتشددة في التعامل مع الخصوم، لاتفاق الأحزاب والجماعات على معادة نظام حزب البعث، إلا أن الاختلاف حول منهج التغيير سرعان ما فرق الصوفية عن الإخوان.
ففي مقابل انزلاق الإخوان إلى نهج المواجهة المسلحة وعلى الخصوص إخوان حماه وحلب، ومشاركة بعض أبناء الجماعات الصوفية في ذلك سنوات 1979-1982، اختار بعض العلماء السوريين مثل البوطي، خيار المسالمة ورفض تأويل جماعات الجهاد المسلّح المتمثّل في تكفير الحكام والخروج عليهم. ورغم أنّ البوطي، بحسب بلحاج، يتفق مع الإخوان في تبنّي فكرة مجتمع إسلامي، كما نجدها في كتب مصطفى السباعي وسعيد حوى، لكّنه يراها متحقّقة في المجتمع الإسلامي الذي يلتزم بالأخلاق والشريعة الإسلامية، دون الحاجة إلى التأسيس لسلطة إسلامية، وهو الأمر الذي أكّده العديد من علماء سوريا ذوي الخلفية الصوفية، الذين فضّلوا حركة «الأسلمة من الأسفل» على فكرة مواجهة النظام.