تحاليل _ تحاليل سياسية _ قيس سعيد: قانون المصالحة ذو طابع سياسي ولن يقدّم أيّ فائدة لتونس.
قال الخبير الدستوري والمحلل السياسي قيس سعيّد إن مشروع قانون «المصالحة» يفتقر إلى نص واضح وقد تم إعداده «تحت جنح الظلام» ورافقته حملات إعلامية كبيرة لتهيئة الرأي العام للقبول به، مشير اً إلى أنه يتضمن أساساً المصالحة بين الأطراف السياسية ولن يقدم أي فائدة للاقتصاد التونسي كما أنه لن يساهم في إعادة الأموال المنهوبة خلال عهد بن علي.
وأكد، في السياق، أنه تقدّم عام 2012 بمقترح للمجلس التأسيسي يتعلق بالعدالة الانتقالية ويقضي بإحداث هيئة قضائية تختص بقضايا الفساد السياسي والاقتصادي، كما يتضمن المقترح إبرام صلح مع رجال الأعمال الفاسدين يتعهدون من خلاله بإعادة 6 مليارات دولار وهو ما يعادل نصف ميزانية تونس في تلك الفترة، على أن يتم ذلك عبر إحداث مشاريع تنموية في جميع المدن التونسية وخاصة الجهات الأكثر فقراً في البلاد، مشيراً إلى أن مشروعه قوبل برفض شديد خوفاً من أن يستفيد منه عدد من الأطراف السياسية.
وكانت لجنة «التشريع العام» في البرلمان التونسي بدأت الأربعاء بمناقشة نسخة جديدة من مشروع قانون المصالحة الذي اقترحه الرئيس التونسي الباجي قائد التونسي عام 2015 ولقي معارضة شديدة في ذلك الوقت، قبل أن تتم إجراءات تعديلات جديدة عليه ليعاد طرحه مجدداً على البرلمان للمصادقة عليه.
وقال سعيد في حوار خاص: «من المفارقات أن البرلمان اليوم يناقش مشروعاً جديداً لكن من دون نص، حيث لم يتم التقدم بنص كما أن المشروع لم يكن موضوعا على جدول الأعمال، في حين تم توظيف أغلب أجهزة الإعلام لتهيئة الرأي العام التونسي للقبول بموضوع المصالحة، كما صدرت أحكام بالسجن ضد بعض الأشخاص الأقل تورطاً في الفساد، حتى يُقال إن الوقت قد حان للمصالحة».
وأضاف: «المصالحة ستتم اليوم بين أطراف سياسية وليس بين الشعب التونسي ومن تورطوا في الفساد، ولكن لو كانت النية صادقة (لدى القائمين على المشروع) لتم البحث أصلا عن حل منذ الأشهر الأولى التي تلت الثورة التونسية. وأود الإشارة هنا أن هذا المشروع تم إعداده تحت جنح الظلام وداخل الغرف المغلقة ليتم لاحقا مناقشة مبدأ المصالحة من دون وجود نص، فضلاً عن أن هيئة الحقيقة والكرامة لا تزال موجودة، وفي حال تم تمرير هذا النص سيتم سحب عددد من القضايا والملفات منها وخاصة المتعلقة بقضايا الفساد الاقتصادي والمالي، والدليل على أن المسار خاطىء اليوم في كافة المجالات سواء بالمصالحة أو من دونها، وهذه الاحتجاجات التي عادت من جديد بالشعارات نفسها تقريبا (التي كانت سائدة خلال الثورة) في كل مناطق الجمهورية، والسلطة المركزية اليوم تتحرك بنفس السياسادت السابقة البالية وتقدم هذه المشاريع على أنه منّة وفضل على الشباب».
وتابع سعيد: «للأسف لم يفهوا أن تونس دخلت مرحلة جديدة في التاريخ ولا يمكن أن يتعامل الحكّام اليوم مع التونسيين كما كانوا يتعاملون معهم من قبل، ولو صدقت النوايا في السابق وعادت الأموال المنهوبة إلى الفقراء منذ البداية لما صلنا إلى هذا الوضع (الاقتصادي والاجتماعي) المتردّي، فمن يريد صناعة تاريخ جديد عليه أن يتعظ بالتاريخ القديم، ولكن هناك قوى تسعى للإبقاء على مراكز نفوذها المالي وعلى تأثيرها في السلطة السياسية حتى تدعم مراكزها، يعني القضية سياسية بامتياز تدل على أن المنحى الذي سارت به تونس كان خاطئا، حيث تم الانحراف بالمسار الثوري والمطالب الحقيقية للتونسيين».
وفي السياق أكّد سعيد أنّه تقدّم في 20 مارس عام 2012 بمقترح للمجلس التأسيسي يتعلّق بالعدالة الانتقالية عموما، ومن بين المقترحات التي تقدّم بها «إحداث هيئة قضائية عليا تتكون من خمسة قضاة (من القضاء العدلي والإداري والمالي)، وتتولى هذه الهيئة الإشراف على ست دوائر، تختص الأولى بالنظر في قضايا الفساد السياسي والإداري وتختص الثانية بالجرائم الاقتصادية والمالية وتختص الثالثة بالجرحى والشهداء، فيما تختص الرابعة بالتعويض والخامسة بقضايا حقوق الإنسان والسادسة بالأرشيف».
وأضاف: «كنت اقترحت في إطار الدائرة الثانية يومئذ إبرام صُلح جزائي مع عدد من الذين تورطوا في الفساد وتم بيان تورطهم بتقرير وضعته هيئة مكافحة الفساد والرشوة وكان عددهم حينها 460 رجل أعمال، وكان المبلغ المطلوب منهم يراوح بين 10 مليارات دينار و13500 مليار دينار (حوال 6 مليارات دولار) أي حوالي نصف ميزانية تونس حينها، واقترحت أن يتم إبرام صُلح جزائي مع هؤلاء وأن يتم ترتيبهم بشكل تنازلي من الأكثر إلى الأقل تورطاً، وأن يتم ترتيب المعتمديات في تونس (عددها 264 معتمدية) ترتيب تنازلياً من الأكثر إلى الأقل فقراً، على أن يتولى رجال الأعمال الأكثر تورطاً القيام بما يطالب به الأهالي في المنطقة الأكثر فقراً من بنية تحتية (مساكن ومؤسسات استشفائية وتربوية وطرق) وغيرها».
وأشار سعيد إلى أنه عرض مقترحه على عدد من الخبراء الدوليين حيث لقي استحسانا كبيرا، ولكنه حين قدمه للمجلس التأسيسي «ظهرت ضدّه عدد من الأطراف خوفا من أن تستفيد منه أطراف سياسية، أي دخلت حسابات السياسة فضاعت حقوق الشعب التونسي، ولو تم العمل بهذا المقترح لتحوّلت تونس إلى حظيرة أشغال، ولكن رفُض المطلب وجاء قانون العدالة الانتقالية وجاءت تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة في ظل التوازنات التي كانت قائمة بعد سنة 2011، والآن تغيرت هذه التوازنات بعد 2014 وهناك حصار لا يخفى على أحد على هذه الهيئة حيث لم يتم سدّ المناصب الشاغرة فضلا عن الحملات الإعلامية التي تستهدفها كلّ يوم».
وتشهد تونس مؤخراً احتجاجات متواصلة في عدد من المدن، وخاصة المناطق المهمشة، تطالب بتنفيذ الوعود الحكومية المتعلقة بالتشغيل والتنمية، فيما يجري حاليا رئيس الحكومة يوسف الشاهد جولة داخل البلاد مقدما وعودا جديدة لسكان هذه المناطق بهدف تهدئة الاحتقان الاجتماعي المستمر.
وعلّق سعيد على ذلك بقوله: «لا يمكن اختصار القضية بمطالبة الحكومة بجملة من المشاريع، تونس اليوم بحاجة إلى بناء دستوري وإداري جديد ينطلق من المحلي إلى المركزي مروراً بالجهوي، هذا البناء هو في الظاهر جديد ولكنه في الواقع قديم، فلو تم إنشاء مجالس محلية في كل معتمدية (منطقة) يتمّ انتخاب أعضائها بطريقة الاقتراع على الأفراد مع إمكانية سحب الوكالة من النائب أثناء المدّة النيابية في حال فقد ثقة ناخبيه».
وأضاف: «هذه المجالس المحلية هي التي تتولّى وضع مشاريع التنمية في كلّ معتمدية، ومنها تنبثق مجالس جهوية في كل ولاية تتولى التأليف بين مختلف المشاريع التي يتم وضعها في المستوى المحلي، وهذه المجالس المحلية تختار من يمثلها في المركز، فتونس تتوافر على كل الثروات والإمكانيات ولكن للأسف يريدون إعادة التاريخ إلى الوراء، ولكن التاريخ لن يسير إلى الوراء على الإطلاق».