تحاليل _ تحاليل تربوية _ الانقطاع المدرسي : دراسة علميّة تحليلية للنموذج التونسي |بقلم: محمّد جلال بن سعد*.
يندرج هذا البحث ضمن التعريف بظاهرة الانقطاع المدرسي ودراسة أسبابها في مختلف مراحل التعليم وتقديم مقترحات للحدّ منها. و ينطلق عملنا هذا من معاضدة جهود وزارة التربية التونسية التي أدركت خطورة ظاهرة الانقطاع المدرسي، وتعمل على دراسة عللها و آفاقها. وذلك إدراكا منا بأنّ الإصلاح التربوي شامل المقاصد عميق الدلالات، يكون عبر العناية بالتلميذ الذي هو محور العملية التربوية كما يكون بتطوير البرامج وتحديث التجهيزات التربوية ويكون أيضا بالعناية بالظواهر التي تنتجها العملية التربوية، ومنها الانقطاع المدرسي أو التسرّب وكذلك ظاهرة العنف المدرسي وغيرها من الظواهر الأخرى التي سندرسها على حلقات في موقع تعليم جديد.
1- المنطلقات الإحصائية: هدر أو تسرب أو انقطاع؟
ارتأينا أن ننطلق في دراستنا لظاهرة الانقطاع المدرسي من الإحصائيات التي يقدمها المشرفون على الدراسات والتخطيط والإحصاء التربوي بوزارة التربية التونسية، وذلك لدقتها وجودتها والجهد المبذول في هذا المجال، فالإحصائيات أفضل وأدقّ سند للتحاليل التربوية. وما يميز عمل وزارة التربية في مجال الإحصاء هو التمكن من الجمع بين التفصيل والخصوصية، وتنوع المجالات والميادين مما جعل هذه الإحصاءات شاملة الدقة وأرضية لكل مبحث موضوعي. ولذلك اعتمدت في تحليل ظاهرة الانقطاع على الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية. وهو تحليل للتحسيس بهذه الظاهرة في عمل أقرب للبحث التعريفي بها، إذ لا يخفى اليوم قيمة التحسيس والتبسيط في توعية المستقبل للأبحاث التربوية. وكانت هذه الجداول الإحصائية منطلقا في التحليل والاستنتاج واقتراح بعض الحلول بالاعتماد على دراسة الأسباب التربوية والاجتماعية والنفسية والسياسية لهذه الظاهرة. وإنّ الحديث عن الانقطاع المدرسي في عملنا هو حديث عنه بجميع تفرعاته وأصنافه، سواء الانقطاع لأسباب تأديبية أو لضعف النتائج أو لأسباب اجتماعية ونفسية وصحيّة. وسنتناوله بالتحليل في جميع مراحل وأصناف التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي.
2- الانقطاع في التعليم الابتدائي
لقد مرّ الانقطاع في التعليم الأساسي بمرحلتين:
– مرحلة أولى حين كان امتحان شهادة ختم التعليم الابتدائي إجباريا.
– مرحلة ثانية بنظامها المعروف اليوم والتي يكون فيها الارتقاء بنسبة مرتفعة كما سنرى.
وما يلاحظ في التعليم الابتدائي سابقا والأساسي حاليا هو أن ظاهرة الانقطاع كانت في السبعينات والثمانينات بنسبة تتراوح بين 7 و8 بالمائة خاصة بداية من السنة الرابعة مرورا بالسنة الخامسة إلى السادسة وتواصل ذك إلى حدود 1992 من مجموع التلاميذ.
نلاحظ أنّه مع نهاية التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثانية بحذف مناظرة السنة السادسة خاصة، تغيرت نسبة الانقطاع وانخفضت. وتحسنت نسبة التمدرس الكمي وللأسف كان ذلك على حساب مخرجات التعليم. وأصبحت نسبة الانقطاع في السنوات الثلاث الأخيرة بين 0.9 و01 .
نستنتج من خلال المؤشرات:
ارتفاع نسبة التمدرس.
تقلص نسب الرسوب.
تقلص نسب الانقطاع بين سن الـ 6 سنوات والـ16 سنة.
لكن بالمقابل نلاحظ نتائج غير مرضية أو قريبة من المتوسط في مستوى:
– اللغة الفرنسية والرياضيات.
-إقبال ضعيف على التنشيط الثقافي وكذلك إقبال ضعيف على الرياضة المدرسية. علما أنّ هذه المرحلة العمرية تكتشف فيها في بعض البلدان على غرار الصين وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا 90 بالمائة من المواهب في الرياضات الفردية، و95 بالمائة من الأبطال الأولمبيين في مجال الجمباز أيضا تكتشف في هذه المرحلة العمرية، فيقع تبنيهم وتأطيرهم من أكاديميات رياضة النخبة.
– سيطرة المنحى الكمّي على البرامج التعليمية: حيت تتراكم الأهداف الجزئية وتتعدد الأنشطة التعليمية : كثرة المواد المدروسة لطفل عمره 6 سنوات، مع عدم تكامل هذه الأهداف مما أدى إلى ضعف وتدهور مكتسبات المتعلمين المعرفية، فضعف التحصيل الدراسي في بعض المواد يؤدي بالتدريج إلى الملل الدراسي الممهد للانقطاع المدرسي، وكذلك إلى عدم المواظبة وكثرة الغياب والتهرب من الدراسة وكرهها. وهذه ليست مشاكل مستعصية الحل متى تم دراسة أسبابها وتشجيع التلميذ في هذه المرحلة العمرية الهامة بتدرج وسلاسة ولطف على التعديل الذاتي للسلوك والعمل على تحسين مستواه، ومتى تمّ إشغال التلميذ ذي المستوى التعليمي الضعيف بالأنشطة المدرسية المخطّط لها والهادفة كل حسب قدراته واهتماماته وميوله و مراعاة حاجيات التلاميذ ذوي النتائج الضعيفة، والعمل على إشباعها وتقديم الخبرات التي تساعدهم على تحقيق النجاح، وتجنيبهم الشعور بالفشل والدونية.
اختلال بين جودة الكمّ وتدنّي النوع والكيف.
فبعد كسب رهان ” الكم” بدليل نسبة التمدرس العالية (تفوق ال 90 بالمائة في الابتدائي). أصبحت المنظومة التربوية التونسية مطالبة بكسب رهان الجودة والنجاعة بما يقتضيه هذا الرهان من تعلّم نوعي في محتوياته وفي طرائقه وفي تنظيماته.
ولا يمكن كسب رهان “الكيف” والجودة فقط عبر تطوير البرامج التعليمية والكتب المدرسية والمقاربات البيداغوجية ونظم التقييم والإشهاد…، بل إن كسب هذا الرهان يمرّ قبل كل شيء عبر دراسة تحليلية للعوامل المعرقلة للإصلاح التربوي بدراسة الأسباب والعلل وطرح البدائل وتطوير الإطار الأوسع للمنظومة التربوية بما فيها تعلمات وتنظيمات وتصرّف وتسيير وتجهيزات وحياة مدرسية.
3- الانقطاع المدرسي في التعليم الإعدادي
في سنة 2013-2014 لاحظنا تقلصا طفيفا لظاهرة الانقطاع إلى 10 بالمائة من مجموع 460592 تلميذا في التعليم الإعدادي لكنها بقيت مرتفعة في السنة السابعة بنسبة 14 بالمائة من مجموع 194224 تلميذا.
ما يلاحظ هو كثرة التلاميذ المنقطعين في سن مبكرة وبطبيعة الحال هذا يعود لوجود حلقة مفرغة بين التعليم الابتدائي والثانوي. وسهولة النجاح من الابتدائي إلى الثانوي (النسبة 90بالمائة سنة2014.و100بالمائة سنة2015).
ونلاحظ أيضا أن عدد المنقطعين من الذكور 33357 ضعف المنقطعين من الإناث 15438.ونسبة المنقطعين في تنازل من السابعة إلى الثامنة إلى التاسعة. لكنّ الظاهرة مفزعة في السنة السابعة 27.636. أين يتوجه هؤلاء؟:
نسبة منهم للتعليم الخاص وأخرى للتكوين المهني والبقية في عمالة الأطفال وهي ظاهرة أيضا وجب التفطن لتفشيها.
4- الانقطاع المدرسي في التعليم الثانوي
حتى في إحصائيات 2013-2014 بقيت نسبة التسرب تقريبا كما هي رغم التراجع الطفيف بنسبة 12.5 بالمائة من مجموع 177718 تلميذا والنسبة العامة بين إعدادي وثانوي 11.4بالمائة من مجموع 408292 تلميذا. فنسبة الانقطاع مرتفعة في السنة الأولى 19.453 وهذا يعود أيضا إلى ضعف حلقة الربط بين التعليم الإعدادي والثانوي وعدم تأقلم جزء كبير من التلاميذ. ونلاحظ كذلك ارتفاع نسبة المنقطعين في صفوف الذكور، وارتفاع نسبة المنقطعين في البكالوريا: 1921 تلميذا. وسترتفع أكثر مع حذف نسبة 25 بالمائة. كما نستنتج أنّ العدد الإجمالي من المنقطعين بين الإعدادي والثانوي 105175. ولقد تفطنت وزارة التربية لخطورة هذه الظاهرة ولذلك تم إقرار العودة لامتحان السادسة ابتدائي والتاسعة ثانوي والتقليص من نسبة 25 بالمائة إلى 20 بالمائة في البكالوريا ومن المعدل الحسابي للإسعاف. ولقد توصّلت الدراسات التي تناولت ظاهرة الانقطاع المدرسي إلى أن الانقطاع عن التعليم في تدرج من المرحلة الابتدائية إلى التعليم الثانوي حيث ارتفع من 1.2 بالمائة إلى 10 بالمائة حاليا. وترتفع نسبة الانقطاع المدرسي في التعليم الابتدائي خاصّة لدى تلاميذ السنوات الخامسة والسادسة وفي مستوى التعليم الإعدادي تتمركز بالأساس في السابعة أساسي بنسبة 30 بالمائة.
وتتجلى هكذا المفارقة في البون الكبير بين الجهد الوطني المبذول في قطاع التربية والتعليم وما تنفقه الدولة، سواء على مستوى البنيات أو التجهيز والموارد البشرية من جهة وبين نوعية “المنتج التربوي” المتمثلة في تدني مستوى الخريجين من جهة ثانية. ذلك أن هذا المنتج التربوي في مستوى نوعيته ما يزال دون حجم التضحيات الكبيرة التي تبذلها المجموعة الوطنية: فتملك اللغات وتوظيفها دون المأمول، وتمثّل العلوم والتكنولوجيات والإبداع فيها محدود، تشهد على ذلك نتائج التقييمات الدولية التي تشارك فيها تونس على غرار تقييم “بيزا”. كما يساهم الفشل المدرسي في ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل من الذين لا يمتلكون تحصيلا علميا عاليا وهو ما يصعِّب من عمليات إدماجهم في سوق الشغل. هذا إضافة إلى تذبذب وكثرة الإصلاحات التربوية المسقطة رغم قصر الفترة الزمنية الفاصلة بينها وسلبية الطرق البيداغوجية المتبعة والأنظمة التأديبية. واختلال وظيفة التوجيه المدرسي على شاكلته الحالية وهي أيضا من الأسباب التي جعلت ظاهرة الفشل المدرسي تتفاقم.
5- دراسة تحليلية لظاهرة التسرب و الانقطاع عن الدراسة
يقول المصلح الاجتماعي السويسري بستا لوتزي “ليس الهدف الأسمى من التربية الوصول إلى درجة الكمال في الأعمال المدرسية ولكن الصلاحية للحياة“.
أ- مفهوم الفشل المدرسي والهدر والانقطاع والتسرب: الظاهرة مختلفة والنتيجة واحدة.
نعني بالهدر المدرسي التسرّب الذي يحصل في مسيرة الطفل الدراسية التي تتوقف في مرحلة معينة دون أن يستكمل دراسته. و يشمل مفهوم الهدر المدرسي في معناه العام كل ما يعيق نجاعة العملية التعليمية التعلمية. و يتسع مجال هذا المفهوم إلى عدد كبير من الظواهر الموجودة في المنظومة التعليمية و منها: عدم الالتحاق بالدراسة و الانقطاع عن الدراسة وتكرار الرسوب والرفت لأسباب تأديبية وصحية وغيرها …كما يدخل بعض علماء التربية عدم إكمال البرنامج الدراسي وتغيبات المربين في هذا الباب. وإجمالا فإن الهدر المدرسي هو : حجم الفاقد من التعليم نتيجة الرسوب و الانقطاع إن صح التعبير. ونفس الظاهرة يرد الحديث عنها في كتابات بعض التربويين بالفشل الدراسي الذي يرتبط لدى أغلبهم بالتعثر الدراسي. كما تتحدث مصادر أخرى عن التخلف الدراسي و اللاتكيف وعن انقطاع التلاميذ عن الدراسة كلية قبل إتمام المرحلة الدراسية أو ترك الدراسة قبل إنهاء مرحلة معينة.
وهو إما انقطاع إرادي يرجع لأسباب ذاتية ومرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو انقطاع غير إرادي يكون التلميذ فيه مرغما على مغادرة المدرسة إثر الفشل والتأخر الدراسيين (الفصل نتيجة ضعف النتائج أو انحراف في السلوك أو لكثرة التغيب..).
والانقطاع المدرسي بمختلف أشكاله وأسبابه مشكل يتعدّى تأثيره الفرد ليشمل المجتمع والاقتصاد فهو يؤدي إلى انتشار الأمية و البطالة والجريمة في المجتمع و يهدر الموارد المالية للدولة.
ب- أسباب الانقطاع المدرسي:
تتمثل أسباب الانقطاع المدرسي سواء الانقطاع التلقائي أو بسب الرفت في:
– عوامل نفسية واجتماعية وذهنية وصحية.
– تغير سلم القيم وتراجع مكانة التعليم في الذهن.
– تراجع المنفعة الاقتصادية للدراسة اليوم، باعتبار تزايد عدد العاطلين عن العمل من ذوي الشهادات العليا، وهو ما يجعل نسبة لا بأس بها من الأطفال تترك المدرسة و تندمج مبكرا في سوق الشغل.
– تراجع دور المدرسة في تقديم وظيفتها التعليمية، مقابل بروز مصادر أخرى للتعلم وترسخ قيم اجتماعية أخرى ترتكز على الثراء السهل والشهرة.
– تغير مفهوم الرعاية الأسرية في ظل عمل الأولياء والضغط الزمني للعائلة وقلة ومراقبة الأبناء في دراستهم ومواظبتهم وتوفير الظروف الأسرية والاجتماعية الملائمة لهم ومراقبتهم في استعمال التكنولوجيا الحديثة.
– ضعف العلاقة الاتصالية بين المدرسة والأسرة.
– بعض المناطق التي تتركز فيها ظاهرة الفشل والانقطاع المدرسي هي مناطق عبور بالنسبة للأساتذة وهذا ما يؤدي إلى عدم استقرار الإطار ذي الخبرة والتجربة.
– الانقطاع المبكر.
إنّ الوضع الاجتماعي للتلميذ يلعب دورًا فاعلاً في تدعيم العملية التربوية نظرًا لأهمية العامل السوسيو-اقتصادي. وإن العائلات التي تعاني من الخصاصة والحرمان تدفع بأبنائها إلى ترك الدراسة وتضطرهم للعمل لمد يد العون لها. وأمّا من الوجهة النفسية فهناك غياب لحسن تأطير التلميذ ومرافقته في فترة حساسة من عمره (المراهقة). فالوضعيات الذاتية الخاصة لبعض التلاميذ ضحية المشاكل والتشتت الأسري وما ينتج عنه من حالات اكتئاب أو لا مبالاة مع ما يطرأ عليهم من تغيرات جسدية ومؤثرات محيطية متنوعة.
هذا إضافة إلى أنّ من أهم عوامل الانقطاع المبكر:
– غياب المحطات التقييمية في السادسة من التعليم الابتدائي والتاسعة من التعليم الإعدادي.
– وجود خلل في المنظومة التربوية التونسية التي لم تعد تجذب التلميذ للدراسة. لهذا من الضرورة بذل جهد كبير لتطوير البرامج و الحياة الدراسية.
– الهوة بين الدراسة وسوق العمل : حيث اتضح أن البرامج التعليمية لا تستجيب لمتطلبات السوق وحاجته للمهن المتوسطة الفنية والمختصة… فالحياة الاقتصادية في البلاد لم تتطور بالقدر الكافي حتى تستوعب الأفواج الكثيرة من الخريجين، ما أدى لتراجع الدافع لدى جزء من المتعلمين بسبب البطالة، وكذلك صعوبة التوفيق بين الكم والكيف في كثير من الأحيان، فالتوسع كثيرا بالتعليم دفع إلى الاستعانة بمدرسين لم يتم إعدادهم مهنيا وبيداغوجيا إضافة إلى السياسة الخاطئة التي تم إعدادها بإغلاق دور ترشيح المعلمين ودور المعلمين العليا وهي مؤسسة كان يتخرج منها المختصون في التعليم بعد أن يتمّ إعدادهم بشكل مدروس.
لقد اتضح منذ مدة أن تعليمنا أصبح يشكو من تدني جودته. و من أهم أسباب تدني جودة التعليم، التوظيف السياسي للمنظومة التربوية قبل الثورة، وأكتفي بالإشارة هنا إلى الإجراء الذي أعتمد لاحتساب 25 بالمائة في معدل البكالوريا والذي اتضح للجميع أنه إجراء خاطئ جدا وأضر بمستوى تلاميذنا وبشهادة البكالوريا وانعكس سلبا على مستوى طلبتنا في التعليم الجامعي. وأشير إلى أن عشرين بالمائة على الأقل من الناجحين في البكالوريا في السنوات الأخيرة ما كانوا لينجحوا لولا هذا الإجراء. وكل هذا دون أن ننسى تآكل البنى التحتية لمختلف المؤسسات التربوية واستشراء ظاهرة العنف المدرسي.
فالمرحلة السابقة (العشرية الأولى من الألفية الثانية) تميزت بتوفير فرص التعليم وتمت تلك المجهودات على حساب الجودة.
– أسباب تعليمية وتربوية لظاهرة الانقطاع:
تتمثل في كون التلميذ المراهق قد يعاني من ضعف المستوى وليست لديه القدرة على مواكبة البرنامج الدراسي فيتجه نحو الغياب المتكرر كنوع من أنواع الهروب من فشله الدراسي. هذه الغيابات المتكررة مع عدم رقابة الوالدين قد تدفع بالمراهق إلى اتخاذ قرار خطير يتمثل في الانقطاع عن الدراسة نهائيا لإنهاء معاناته من هذا الواجب الثقيل على نفسه وعلى قدرته الذهنية والفكرية.
ومن الأسباب الأخرى في هذا المجال:
– عدم استعمال الوسائل التعليمية التي تجذب انتباه الطلاب خاصة في المواد الفنية والتكنولوجية وفي تدريس اللغات وغيرها..
– فتور العلاقة بين المدرسة ومحيطها وضعف دورها التعليمي والتربوي.
– ضعف طرق وأساليب التعليم ثم مضامينه ومحتوياته، فالتعليم يجب أن يسعى إلى إعداد المتعلم للحياة وليس إلى تلقينه مجموعة من المعارف والمعلومات النظرية البعيدة عن محيطه وبيئته وحياته.
– أسباب بيداغوجية:
تتمثل في تأخر إصلاح التعليم وضعف في البرامج وتكرار أساليب الترقيع وإسقاط سياسات فاشلة على الساحة التربوية.
-إنجاز التلميذ لمجموعة من الفروض في حيز زمني ضيق، مما يضيع عليه فرصة الحصول على نقط جيدة. ولهذا حذفت الوزارة أخيرا نظام الأسبوع المغلق وعدّلت في طريقة تنظيم الفروض التأليفية.
– ضعف التلاميذ في اللغات والرياضيات وهي عوامل يجب حسن تعليلها لتلافيها.
– أسباب سياسية لظاهرة الانقطاع:
تتمثل أساسا في التركيز على الأشكال والمظاهر والأرقام والإحصائيات والواجهات والشعارات وإهمال المضامين والقيم والمعايير والأفكار والبرامج الثرية وخاصة التباهي الأجوف بالنسب والأرقام في العشرية الأولى من الألفية الثانية.
– أسباب نفسية:
تكمن هذه الأسباب في تعرض الطفل المراهق إلى اضطرابات نفسية مثل القلق والتوتر اللّذين تسببهما عادة المشاكل العائلية وخاصة الشجار بين الأم والأب، وما يرافق ذلك من تشنج عائلي وغياب تام للاستقرار الأسري. وعند تعرض التلميذ المراهق لهذه المشاكل يصبح هائما وكثير الشرود فيقل تركيزه في الدراسة ويتكاسل عن أداء واجباته المدرسية في المنزل ولا يراجع دروسه. هذه العوامل غير المشجعة على الدراسة تدفع التلميذ إلى التغيب عن الدراسة وعند تكرار هذا الفعل يضعف مستواه الدراسي ويرسب في الدراسة. وتكون النتيجة النهائية الانقطاع عن الدراسة للتخلص من الضغوطات والاضطرابات النفسية العسيرة التي يواجهها المراهق وهو أيضا شكل من أشكال الهروب من الواقع.
– عامل التقليد لدى المراهقين، حيث يصبح المراهق أكثر تأثرا بأترابه من المراهقين فيحاول تقليدهم في كل شيء. من ذلك مثلا مجاراتهم في الخروج والنزهة داخل أوقات الدراسة والتمرد على أوامر الأساتذة والمربين فتكثر غياباتهم وتكون هذه أيضا بداية من بدايات الانقطاع عن الدراسة.
– أسباب اجتماعية اقتصادية لظاهرة الانقطاع المدرسي:
تتعلق هذه الأسباب بالوضع المادي لعائلة المراهق. فإذا كان ينتمي إلى عائلة معوزة أو محدودة الدخل فإنه سيواجه مشاكل كثيرة، منها الشعور بالدونية مقارنة بزملائه الآخرين نتيجة عدم حصوله على مصروفه اليومي. كما أنه سيحرم من متابعة الدروس الخصوصية نظرا لعجز عائلته عن توفير ثمن هذه الدروس وبالتالي سوف لن يتحسن مستواه الدراسي ولن يتم التغلب على النقص الذي يعانيه في بعض المواد. كل ذلك يؤدي إلى قلة تركيزه وشروده المتكرر أثناء الدرس. ويمكن أيضا للتلميذ الذي ينتمي إلى عائلة ثرية أن يرى في الدراسة مجرد مضيعة للوقت وأنها عديمة الفائدة، فيشرع في التفكير في الانقطاع عن الدراسة وتعويضها بأشياء أخرى ترضي غروره وطموحه. ويجب أيضا أن تتغير النظرة للهدف من التعليم المرتبط أساسا بالوظيفة في القطاع العام، فالتعليم اليوم يجب أن يرتبط بالمهن الصغرى والمتوسطة دون إغفال القطاعات الأخرى. تغير يجب أن ننتقل فيه من المنظومة التربوية التي تهيء للوظيفة العمومية في نسبة كبيرة منها إلى منظومة تربوية تهيء للحياة الاجتماعية. ونشير هنا أن المنظومة التربوية التونسية قامت منذ نشأتها حتى نهاية القرن العشرين تقريبا على الربط الآلي بين التعليم والتشغيل، بمعنى أنها كانت تضع تهيئة المتعلمين للحياة المهنية وفقا لحاجات الاقتصاد الوطني وجعل الوظيفة الحكومية على سلّم الأولويات، بدل تهيئتهم للحياة الاجتماعية بالمعنى الشامل.
لقد أثبتت التحولات المشهودة على المستويين العالمي والوطني في الاقتصاد وفي العلاقات الاجتماعية وفي المعارف والعلوم وفي التربية والتعليم عامة أن هذين البعدين أفضيا إلى انسداد الآفاق في العملية التربوية. فمقتضيات العصر تفترض تطوير كفايات المتعلمين … كما تفترض أيضا تهيئة المتعلمين للحياة الاجتماعية بصفة عامة.
إنّ أبرز التحديات التي تواجه المنظومة التربوية التونسية اليوم هي إنجاز هذا التحوّل من مرحلة “حشو الأدمغة” وتوفير يد عاملة وموارد بشرية مرتبطة بحاجات اقتصاد تابع و متخارج، إلى مرحلة تملك كفايات متنوّعة تهيء المتعلّم لحياة اجتماعية سمتها الرئيسية التغير المتسارع والمستمرّ، إذ لا مجال لمنظومة تربوية ثابتة / رافضة للعصر، في واقع دائم التغير”( حسين الحامدي متفقد أول تاريخ وجغرافيا).
ومن الأسباب الاجتماعية أيضا ضيق ذات اليد لبعض العائلات مقابل ارتفاع متطلبات الحياة الدراسية، وهذا يعد عنصرا رئيسيّا في دفع الأولياء أبناءهم للعمل في سن مبكرة و الذي يحول دون دراستهم. وكذلك ارتفاع قيمة التكلفة المالية للسنة الدراسية للطالب الواحد وتفشي الدروس الخصوصية وعجز ميزانية العائلات عن سدادها مما يستوجب الاقتراض وارتفاع مديونيتها وكذلك تفشي البطالة لدى المتخرجين من الجامعات وندرة مواطن الشغل في القطاع الخاص. وتعود أسباب الانقطاع أيضا لغياب معالم واضحة ومخططة للتنمية لا فقط الاقتصادية والاجتماعية، بل التنمية الثقافية.
فالمشكلة هنا هي مشكلة اجتماعية وثقافية تتمثل أساسًا في اهتمام ومراهنة الدولة والمجتمع على حد السواء على ما هو مادي أكثر بكثير من مراهنتها على ما هو علمي و أكاديمي. هذا إضافة إلى غياب الاهتمام بالمتطلبات الحديثة للتلميذ وعدم تفريغ «الطاقة السلبية» الموجودة داخله وتطويعها في أنشطة فنية إبداعية (مسرح – موسيقى – سينما –رقص…) مقابل انتشار أفكار جديدة يأوي إليها التلميذ وتؤدي به إلى منزلقات بعيدة كل البعد عمّا هو دراسي: مثل الأفكار التي تدعو إلى التطرف واستعمال العنف والهجرة غير المنظمة…(تيسير عباس أخصائية في علم الاجتماع من مقال المقاربة السيكولوجية للانقطاع المبكر عن التعليم).
————————————
* أخصائي علم النفس التربوي ورئيس الجمعية التونسية للتعليم الذكي. ماجستير علم نفس تربوي. ومؤلّف العديد من الكتب المختصّة في التربية.
———————————————————————–
المصادر والمراجع.
1- الدراسات والتخطيط والاحصاء التربوي :معطيات ومؤشرات القطاع بالنسبة للسنة الدراسية 2013-2014.
2-المهدي المنحرة وآخرون.من المهد إلى اللحد(التعلم وتحديات المستقبل)مطبعة النجاح الجديدة.البيضاء.ط3. 2003
3- أمر عدد 2437 لسنة 2004 مؤرخ في 19 أكتوبر 2004 يتعلق بتنظيم الحياة المدرسيةلس
– تقرير المرصد الوطني للعنف المدرسي (01ديسمبر2014).
4- برنامج وزارة التربية في تنفيذ الخطة الوطنية لتطوير كفاءات الموارد البشرية.
برنامج وزارة التربية في تنفيذ الخطة الوطنية لتطوير كفاءات الموارد البشرية لسنة2015. منشور عدد18اكتوبر2015.الصادر عن السيد الوزير.
5 – البرنامج العربي لتحسين جودة التعليم التابع للاكسو
6- تيسير عباس : المقاربة السيكولوجية للانقطاع المبكر.
7- حسين حامدي : الاصلاح التربوي في تونس . موقع التربوي.
8- ميزانيةوزارة التربية وفق منهجية التصرف حسب الاهداف
لسنة2012و2013و2014.(اكتوبر2013).
9- موقع وزارة التربية : الجزء الخاص بالتخطيط والاحصاء المدرسي.
www.education.gov.tn
10- المواقع العالمية المتعلقة بالانقطاع والعنف المدرسي.
11- اتفاقيات وتوصيات اليونسكو في ميدان التعليم
اليونسكو لمكافحة التمييز في مجال التعليم اتفاقية
http://www.unesco.org/education/pdf/DISCRI_E.PDF
حقيقة أستغرب كيف يمكن لغياب التقييم في السنة السادسة التاسعة أن يكون عنصرا وفي مقدمة العناصر المتسببة في انتشار ظاهرة الانقطاع عن التعليم …بل بالعكس أعتقد أن التقييم المتواصل التلميذ قبل سن 16 هو من الأسباب التي أثقلت كاهله بعض التلاميذ نفسانيا ….فهل التقييم غاية في حد ذاته !!!!ام التقييم دافع الغربلة وتمييز البعض عن البعض !!!!!العملية التعليمية في حد ذاتها لابد أن تحدد الغاية منها فهل نحن نفكر في تكوين تنشئة مواطنين صالحين قادرين علي الفعل الذكي في واقعهم أم نحن مازلنا نعتقد أن للمدرسة وظيفة تقديم مادة ومعلومات نعود لنقيم التلميذ ونختبر الكم الحاصل لديه من تلك المعلومات ؟؟؟؟ المعلومة والمادة المعرفية يمكن لأي انسان أن يتحصل عليها في كل مراحل حياته وفي كل زمان ومكان من عالم الإنترنيت ….فلابد من إعادة النظر في وظيفة المدرسة ككل فأنا أعتقد أننا لو حددنا وظائف دقيقة ومحددة للمدرسة تقطع مع الصورة النمطية والتقليدية لن تكون المدرسة عبئا علي أبناءنا بل بالعكس ستتحول إلى ملجأ يحتوي الأطفال والمراهقين وتفتح لهم آفاقا وتأهيلهم لحياة اجتماعية وعملية ناجحة