تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ التسرّب من التعليم تيّار يجرف المراهقين نحو الانحراف.
تطلعنا الإحصائيات الرسمية في غالبية الدول العربية على أن أعداد المراهقين والشباب المتسربين من التعليم في تزايد مطرد، وتقول الأرقام أنهم يمثلون النسبة الأكبر من ضحايا الآفات والظواهر الاجتماعية مثل الجريمة والإرهاب والانحراف والبطالة والانتحار وغيرها الكثير، لكن هذا الارتفاع العددي لم تواكبه زيادة في الاهتمام بهذه الفئة سواء بالبحث والدرس أو باعتماد ووضع استراتيجيات تستهدف احتواءها وإيجاد حلول تخرجها من دوامة التهميش بغرض الاستفادة من طاقاتها كقوة عاملة ودافعة نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
لا جدال في أن وضع الشباب في جل الدول هو المرآة العاكسة لواقعها ومستقبلها، فالشباب هو مخزون الطاقة والقوة لكل المجتمعات وإن لم يتم الاستثمار فيه واستغلال طاقاته فإنه يعد من موارد القوة المهملة وغير المستغلة على النحو السليم.
ويعيش الشباب في الدول العربية واقعا يتسم بالتهميش والإهمال فلا نراه اليوم في مواقع القيادة والقوة والسلطة، ويكافح الشباب من حاملي شهائد التعليم العالي ليجد عملا يؤمن له العيش الكريم بالرغم من أن بيده سلاح العلم والمعرفة فما بالك بالشباب الذي ترك التعليم وخرج لمعترك الحياة من دون شهادة علمية لعلها تكون مفتاح النجاح في حياته.
فئة الشباب المتسرّب من التعليم والتي تمثّل نسبة هامة من الشباب والمراهقين تعد بحسب خبراء علم الاجتماع الحلقة الأضعف في الشباب العربي وبالرغم من كونها كتلة هامة عدديا إلا أنها تعيش على الهامش في غالبية الدول العربية خصوصا منها تلك التي تشهد حروبا ونزاعات واضطرابات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية على غرار دول ما يسمى بثورات الربيع العربي، حيث يجد المتسربون من التعليم أنفسهم خارج دوائر السياسة والاقتصاد والمجتمع وأحيانا خارج الإطار الأسري.
وتردّد جلّ الحكومات في الدول النامية أن أهم مواردها هي الطاقة البشرية وأنها تراهن على الشباب وتعتبره ثروتها فهو من يحمل آمال المستقبل وهو العنصر الاجتماعي القادر بطاقاته وقدراته على العمل والإنتاج. وهو برغبته في التطور قادر على التغيير وتحقيق الأفضل له ولأسرته ومجتمعه لكن الواقع المعيش يكشف عكس ذلك.
وبحسب قراءات وأرقام البحوث الاجتماعية والدراسات والإحصائيات الرسمية، فإن هذا الكلام ليس إلا شعارات يرددها قادة الدول وأصحاب القرار كنوايا ووعود سياسية بأغراض انتخابية وغيرها.
ووفق المختصين في الاقتصاد فإنه بجانب تغييب الشباب سواء كان من خريجي التعليم العالي أو المهني أو من المتسربين من التعليم من سياسات هذه الدول فإنه غائب عن خطط التنمية والمشاريع المستقبلية، وإن ذُكر كرافعة للاقتصاد فإن ذلك يظل حبرا على ورق.
غياب الدراسات العلمية التي تهتم بالشباب المنقطعين عن التعليم يجعل التعاطي مع قضاياهم اعتباطيا وشموليا
ولا نرى في أكثر الدول العربية خططا واضحة ومتبعة تسعى لترسيخ دور الشباب كقوة إنتاج تدفع نحو التقدم والتطور مثلما لا نجد الدراسات والأبحاث التي ترصد وضعه الراهن بشكل تفصيلي وتخصص حيزا من الاهتمام لكل فئاته فتقدم تحليلا عميقا ومحايدا عن واقعه وتدرس أسباب وتداعيات حضوره الكبير في جميع أنواع الآفات الاجتماعية كالإرهاب والجريمة والبطالة التي تؤرق هذه المجتمعات.
غياب الدراسات والبحوث العلمية التي تهتم بالمراهقين والشباب عموما وبالمنقطعين منهم عن التعليم خصوصا يجعل التعاطي مع قضاياهم شموليا واعتباطيا، حيث تنجم عنه استراتيجيات تنموية مختلة التوازن وخطط للإصلاح فاقدة للمصداقية لأنها لم تؤسّس (إن وُجدت) على بحث دقيق للأسباب التي تدفعهم نحو الانقطاع عن التعليم ولم تبحث في نمط عيشهم بعد أن يغادروا مقاعد الدراسة.
وتُهمل كيفية التعامل معهم من الجهات الرسمية كمصدر للثروة يمكن الاستثمار فيه والاستفادة منه بتوفير بدائل تمكنه من بناء مستقبله دون شهادة علمية.
وبحسب مختصين في علم النفس يواجه المتسرّبون من التعليم نقصا في الإحاطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من طرف حكومات بلدانهم، فالشاب بعد أن يغادر مقاعد الدراسة في تونس مثلا لا يجد أمامه بديلا عن الشارع بكل ما يحمله من ضغوط وظروف قاسية ومن مخاطر وآفات.
وهو عرضة كذلك للتمييز والرفض من أسرته ومن المجتمع ككل ومن المشغلين، فينظر إليه نظرة دونية عند مقارنته بأقرانه ممن تابعوا تعليمهم. كما يلقى اللوم عليه منذ البداية دون تفهّم ويصبح موضع اتهام وإقصاء كونه تخلى عن التعليم وتطلق عليه أحكام مسبقة مثل فاشل ومتمرد وأحيانا منحرف، فقط لأنه ترك الدراسة دون فهم ومعرفة الدوافع الحقيقية والتي قد تكون خارجة عن نطاقه واضطرته إلى تركها.
وتقول الدراسات الاجتماعية إن التمييز والإقصاء اللذين تلقاهما هذه الفئة لا يصدران فقط عن المجتمع بل أيضا عن المقربين والأسرة وهو ما من شأنه أن يعقد وضع المراهق أو الشاب المنقطع عن التعليم ويغذي مشاعر النقمة والإهمال والنبذ لديه فيكون فردا منعزلا أو معزولا عن المحيط الأسري والمجتمعي.
ولا يجد بعد النبذ بديلا لحاجته في التواصل والتفاعل المباشر مع محيطه سوى التقوقع في مجموعة تتكون من أفراد إما متسربين من التعليم مثله أو عاطلين عن العمل أو منحرفين، وهو ما يجعله فريسة سهلة للانحراف كما للتطرف والجريمة والانتحار، إلى جانب ضعف مستواه المعرفي والعلمي.
وتؤكد الدراسات الاجتماعية والاقتصادية أن غياب العمل الفعلي من أصحاب القرار على تغيير وضع الشباب المتسرب من المدارس من خلال البحث في الدوافع التي تجعله يختار أو يضطر إلى ترك الدراسة أولا، ومعرفة كيف يعيش حياته اليومية ثانيا، وتحديد المخاطر التي تحدق بمستقبله إن بقي فاقدا للبدائل والخيارات لتأمين مورد عيشه في غياب الشهادة العلمية ثالثا، لن يتيح لها وضع استراتيجيات وخطط كفيلة بإصلاح وضعه بشكل صحيح.
ومن شأن هذه البحوث إن أنجزت أن تفضي لاستراتيجيات فعالة تجعل هذا الشباب عنصرا فاعلا ومنتجا وقادرا على المساهمة في تطوير ذاته وفي بناء مجتمع سليم وتحقيق تنمية اقتصادية لبلاده.
______________________________________________________________________
*سماح بن عبادة | صحافية من تونس.