تحاليل _ تحاليل سياسية _ العالم في عصر العولمة: الشعبوية لمواجهة الإسلاموية. |بقلم: ملهم الملائكة*.
نجحت الشعبوية في أن تتخذ شكلا تحكم من خلاله متخذة نموذجا التجربة الشيوعية. خاطب قادة الشيوعية الفاسدون المتسلحون بمبادئ كارل ماركس المثالية النبيلة مشاعر الشعوب، بخطاب جعل من حاجات الناس تجارة رابحة في العالم الاشتراكي. فكانت أزمات اللحوم والبيض والوقود والكهرباء (المستمرة حتى الآن في كوبا وفيتنام وكوريا الشمالية) والمكاييج وسراويل الجينز عنوانا لعصور القحط أتى صانعوها بسياساتهم الشعبوية الرخيصة.
وتبع كل ذلك تساقط القيم الفكرية والفنية والروحية. فالمجتمعات الشيوعية سيطرت عليها مشاعر شعبوية أقصت كل إبداع أو وعي ممكن. وباتت دول أوروبا الشرقية جمهوريات بدائية تدنت فيها قيمة الإنسان.
في هذه المرحلة بالذات، ابتكر المعسكر الرأسمالي حربا على الشيوعية بسلاح بسيط غير مكلف ولا يحتاج إلى قنونة أو تشريعات، فجاء شعار “الإسلام هو الحل” ليجعل من الإسلام سلاحا يتسلح به الإسلاميون في حروبهم وصراعاتهم التدميرية عبر العالم.
التاريخ مغاير لمعطيات الأرض
قد يعترض البعض على التسلسل التاريخي في هذا السياق، لأنّ الإخوان المسلمين كحركة بدأت قبل هذا التاريخ، لكن ما جرى على الأرض أنّ التجربة السوفيتية في أفغانستان كشفت عن العجز الشعبوي الذي وصل إليه المعسكر الشيوعي، فكانت ضرورة التاريخ وحتميته الديالكتيكية، بلغة الماركسية، أن يطلع الضد الذي سيصارع الشعبوية من أفغانستان.
وظهر على سطح الأحداث أسامة بن لادن و”المجاهدون” وهم التطبيق الوحشي السني للإخوان المسلمين ونظرياتهم. وفي نفس المرحلة أي سبعينات القرن الماضي ولدت “الجمهورية الإسلامية في إيران”. حلّ إسلاموي سني وآخر شيعي والعالم الشعبوي الشيوعي بدأ ينهار، فحُسم الصراع الديالكتيكي بين التدين والإلحاد لصالح التدين، وكأنّ الغرب كان متدينا آنذاك. وانتصرت جبهة التدين فقرعت كنائس أوروبا أجراسها، وبات القادة الشيوعيون هم أنفسهم حاملي لواء المسيحية المتحررة من رق عبودية الشعبوية.
جاءت الإسلاموية إذا بسبب الشعبوية الشيوعية، وتكرّرت تجربة اصطفاف الأديان لمحاربة الشيوعية، ولكنّ الشعوبية الغربية مصطفة اليوم لمحاربة الإسلاموية. وبيّن لؤي المدهون المتخصّص في الشأن الإسلامي في الصحافة الألمانية أنّ “لصعود الإسلاموية أسبابا متعددة. لكن لا شكّ أن خطابات الإسلام السياسي تتشابه مع الخطابات الشعبوية السائدة في أوروبا الغربية حاليا، فهي معادية للنخب الحاكمة ‘الفاسدة’، كما تدّعي احتكار تمثيل الشعب بشكل قطعي. كما يجب أن لا ننسى أنّ أطروحات الإسلام السياسية تبقى تبسيطية وعاطفية ولا تقدّم حلولا مقنعة لتحديات وإملاءات الواقع” .
لكنّ تنامي المدّ الإسلاموي أحدث شرخا في المجتمع الغربي أيضا فباتت النخب تغرّد في جانب، وغالبية الشعوب تغرّد في جانب آخر. ورأينا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وخيار بريكست الذي عدّه الكثيرون عنوانا لهذه الشعبوية، وظهور خيرت فيلدرز في هولندا ومارين لوبن في فرنسا، وفي ألمانيا فراو كهبيتري وحزبها البديل من أجل ألمانيا، وتيارات يمينية في أسبانيا واليونان وأوروبا الشرقية.
وسطع الانقسام بانتخاب الشعب الأميركي الرئيس دونالد ترامب. وأشدّد هنا على أنّه رئيس منتخب وهذا هو عين ما نحن فيه. وبتنا نرى مواجهة مقبلة لا هوادة فيها بين الشعبوية والشعبوية أوّلا. فترامب يرى في رئيس كوريا الشمالية الشيوعي الشعبوي خصما لدودا قد يخوض حربا نووية للقضاء عليه، وليس واضحا كيف سيجري هذا لكن التصعيد يمضي قدما.
والباحث أحمد خالص الشعلان استبعد هذا السيناريو مبينا أنّ المواجهة الكونية مكلفة للعالم الغربي، وأظن أن ليست الولايات المتحدة لوحدها وإنما الغرب كله تقريبا يعتمد على استراتيجية ديناميكية مفادها “لا تحصر عدوك عند الزاوية. فمع أن المواجهة الكونية قد تؤدي فعلا إلى فناء العدو ولكنها في الوقت نفسه قد تغيـّب عن ناظر (التيار الشعبوي) استشراف ما وراء أكمة المد الإسلامي الأصولي من مخاطر.
المشهد الإسلاموي مشهد براغماتي بامتياز، إذ نجح في دمج الخطاب الشعبوي بصناعة نخبة سياسية جديدة خرجت من منابر المساجد والحسينيات والتكايا. الإسلاموية السنية، ممثلة في الإخوان المسلمين، هي السابقة تاريخيا، لكن الإسلاموية الشيعية وتصدير الثورة هي نتاج حركة العلماء في إيران التي نشطت مطلع القرن العشرين وبلغت أوجها إبان ثورة مصدق، وبالتالي هي سابقة تاريخيا للإسلاموية السنية أو معاصرة لها.
صناعة غربية مقصودة
بنفس الاتجاه، يمضي رجب طيب أردوغان في تركيا، مصمّما كما يبدو على أن يصنع جمهورية إسلامية سنية تركية تنأى بنفسها عن علمانية أتاتورك، وسنرى قريبا مصانع إنتاج الشيوخ تنتشر من مناطق غازي عينتاب وديار بكر إلى ما حولها.
وأفرز الاستفتاء على التعديلات الدستورية بوضوح الانقسام المجتمعي الحاد في هذا البلد، فالمدن وضمنها العاصمة أنقرة وإسطنبول تقف ضد المشروع الإسلاموي، وتؤيد أتاتورك ونهجه، فيما الريف وأقاليمه مع مشروع أردوغان بشكل مطلق. وهذا يطابق تماما المشهد في إيران، فسكان المدن هم من قادوا الثورة الخضراء عام 2009، وسكان الريف يدعمون التيار المحافظ والانقسام المجتمعي ما برح يتعمق.
ويعزو الكثيرون هذا التوتر القائم إلى نظرية المؤامرة، ويضعون الغرب في موقع المنتج للتيارين، الاسلاموي والشعبوي على حد سواء. ويرى أحمد خالص الشعلان “أنّ الغرب قادر باستمرار على اختلاق ‘قوى’ تدير له لعبة الأمم في المنطقة دون أن تدري تلك ‘القوى’ أنّ الغرب هيأ لها الحاضنة والعوامل الموضوعية لظهروها. وهكذا خُلقت جماعة الإخوان وحزب الدعوة وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية والعشرات من التنظيمات الشبيهة في سوريا والعراق”.
لعل قمة الغموض تتجسد في التشابه بين الإسلامويين والشعوبيين، تشابه يراه البعض بمستوى التداخل في المواقف والتوقعات، فحين هاجمت سلطات الحكومات العربية الإسلامويين وطاردتهم، لجأوا إلى الغرب، ولا عجب أن نجد قيادات الإخوان المسلمين والقيادات الشيعية الإسلامية ما زالت محترمة مرفهة تعيش في الغرب، بل إنّ الغرب ما برح يشن حربا إعلامية ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأنّه يحارب الإخوان.
ولا أحد ينسى تلك الصورة التاريخية لرجل الدين آية الله خميني وهو ينزل من الطائرة الفرنسية ويده على كتف طيارها ليُسقط إمبراطورية شاه إيران محمد رضا بهلوي وهو مازال في السلطة وفي أوج قوّته، هكذا بكل بساطة بعد أن سحبت الولايات المتحدة بشكل غامض البساط من تحت قدمي الشاه أقرب حلفائها في المنطقة لسبب مازال مجهولا. اليوم وفي عصر العولمة تنامت قدرات القوى الإسلاموية، فبات الإخوان المسلمون يؤسلمون أوروبا، ويملكون لوبيا نافذا اخترق أعلى مراكز القرار في أوروبا، فيما تقوم الأحزاب الشيعية الإسلاموية بتبني مشروع تشييع أسلمة أفريقيا ساعية لتكريس مفاهيم الدول الدينية في الشرق الأوسط، في حلم بنشر سلطة ولاية الفقيه على أوسع مساحة جغرافية ديموغرافية جيوسياسية ممكنة.
—————————————————————————————————————–
* كاتب عراقي.