تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ العودة المدرسية.. المناسبة الأسرية الأهمّ.
حالة استنفار قصوى تشهدها الأسر خلال العودة المدرسية، وأخص بالذكر منها تلك التي تتأهّب لخوض أبنائها التجربة الأولى في التعامل مع الفضاء المدرسي، بما يحمله من قداسة العلم والمعلمين والمتعلمين. الأمر بات أشبه بخوض معركة لا بدّ من توفير أكبر قدر من ممهّدات النجاح فيها.
يقترن في الأذهان نجاح التنشئة ونجاح الجهد الأسري، النفسي والمادي، بالنجاح الدّراسي، خاصّة في المجتمعات العربية التي ترسّخ فيها التلازم البديهي بين التعليم والتشغيل. فأولى خطوات بناء المستقبل هي النجاح في الدراسة.
ومن الضغوط التي تمارس على الأسر أيضا أنّ التعليم لم يعد حكرا على الأغنياء والميسورين في المدن دون الأرياف، فانتشار التعليم بين كل الفئات الاجتماعية على اختلافها شحذ الهمم للتنافس، ما أفرز فكرا نخبويا يُقيّسُ التميّز الذي تنشده كل الأسر لأبنائها، وتجتهد من أجل تحقيق ذلك.
من هذا المنظور تكتسي العودة المدرسية هالة من العظمة، فتتصدر اهتمامات الأفراد والعائلات حتى أنهم يبوّئونها صدارة مناسباتهم العائلية. يتجنّد جميع الأفراد في الأسرة، فيستعدون ماديا ونفسيا للتعامل مع الحدث “الاستثنائي”. فيبدأ الأمر تخطيطا وينتهي تنفيذا، يمكن تأجيل كل شيء في الحياة باستثناء “مستقبل الأولاد”، فهو أمر مقدّس.
أما الاستعداد فيبدأ بالتهيئة النفسية للمتعلّمين الذين يصيبهم الخمول أثناء عطلة صيفية طويلة هجروا خلالها الأقلام والكراسات والكتب وكرّسوا كل أوقات فراغهم للّهو وإدمان وسائل التواصل الحديثة كالفيسبوك وتويتر، ولا بدّ من رجّة نفسية ليتقبل المتعلم أن وقت الكدّ والجدّ قد حان. الآباء والأمهات هم أيضا يستعدّون نفسيا لتجاوز ضغط المناسبة لأن نسق الحياة اليومية للأسرة سيتغيّر ويحتّم تنظيما وجدولة جديدين في توزيع المهام خاصة إذا كان الزوجان عاملين.
تضحيات جسام تبذلها الأسرة لإنجاح عودة أبنائها إلى مقاعد الدراسة، خاصة وأن مناسبات احتفالية وترفيهية تسبق العودة، منها شهر رمضان وموسم الاصطياف وعيد الأضحى، وهو ما يسلط ضغطا ماديا ومصاريف إضافية تثقل كاهل الأسرة، ويضعها أمام الأمر الواقع وأمام حتمية توفير الإمكانيات المالية اللازمة لإنجاح الموسم الدراسي.
الضرورات مثل توفير الملابس والمحافظ والزيّ المدرسي ولوازم الدراسة الأخرى كالكتب والكراسات والأقلام، ولا ننسى طبعا الدروس الخصوصية التي أضحت ضرورية خاصة بالنسبة إلى الأقسام النهائية، فلا مفر منها لأنه لا يمكن أن يتم ّالأمر من دونها. ولكن ما يجلب الانتباه وخاصة في الحواضن الكبيرة أن الأسر تجاوزت الضرورات إلى الكماليات في رؤية اجتماعية مغلوطة تكرّس بطريقة فجّة الفوارق الطبقية والاجتماعية من ناحية كما تحاول أن تؤصّل لمعايير التباهي والنرجسية التي أصبحت من أبجديات العلاقات الاجتماعية الرعناء في أيامنا هذه.
وإذا ما بحثت الأسرة عن “الكيف” و”الأغلى ثمنا” و”العلامة التجارية” في اقتناء لوازم العودة المدرسية فلا يعني ذلك بالضرورة أنها ميسورة الحال وإمكانياتها المادية تسمح بذلك، ولكنها انجرفت في تيار التقليد والمباهاة والتعالي الذي أضحى ينخر بنية المجتمعات الحديثة، فتعمد إلى الاقتراض دون تخطيط مسبق ما قد يدفع الأسر لاحقا إلى الوقوع في مطبّات مادية ليس من السهل الخروج منها.
أما العائلات محدودة الدخل والفقيرة فهي التي تعاني إرهاصات مضاعفة، فالشعور بالعجز المادي وعدم القدرة المالية على الإيفاء بالمتطلبات الضرورية -دون توق إلى الكماليات- ليؤم الأبناء مقاعد الدراسة كبقية التلاميذ، يسلطان على الآباء والأمهات ضغوطا نفسية يصعب عليهم تحملها. فيلجأون إلى طلب المساعدة وحتى التسوّل، أو يترقبون الهبات وتدخلات الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والمساعدات الحكومية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لأن الطلب يفوق العطاء.
ومن هذا المنطلق، إذا مثلت مناسبة العودة المدرسية بالنسبة إلى بعض العائلات عرسا لأبنائها بما يحمله من أمل في مستقبل مشرق، فإنها تمثل للبعض الآخر كابوسا يجثم على قلوب الآباء والأمهات كما الأبناء، الذين يكرهون الدراسة وينفرون من مقاعدها لأنهم يرون بكل بساطة أنها ليست لهم أو أنهم ليسوا أهلا لها، وهذا ما يفسر حتما ارتفاع نسب ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة في صفوف الفقراء والمعدمين.
بكلّ المقاييس تعتبر مناسبة العودة المدرسية من أهم ما يشغل الأسر ويقضّ مضاجعها لما للحدث من قيمة اعتبارية، حيث يسلّط ضغوطا نفسية ومادية على كل الأسر، الفارق الوحيد أن مستوى الوعي والقدرة المالية هما اللذان يحددان طبيعة هذه الضغوط ومدى حدّتها ومدى تأثيرها على أفراد الأسرة.
أعتقد أن المساعدات المادية -دون الخوض في مرجعياتها الاجتماعية أو الدينية أو الفكرية- ضرورية في حالات الفقر والعوز أو في الحالات الاستثنائية المستجدّة كنتائج الحروب والصراعات على المتمدرسين من المهجّرين وفاقدي السند والفقراء المعدمين. نأمل أن تتجسد خلال العودة المدرسية كل معاني التكاتف الأسري والتراحم الاجتماعي والإنساني عموما، تحت شعار واحد “المدرسة للجميع”.
—————————————————————————————————-
*عبد الستار الخديمي | كاتب تونسي.
شكرا على المقال الذي يمس الواقع التونسي الحالي إلا أنه لم يتطرق إلى أهمية العلم و العلماء في محو الجهل و الخرافات و تحقيق التنمية البشرية التي تنقص الشعوب العربية عموما و التي ساهمت في حدوث الثورات على الحكام الفاسدين في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و إن شاء الله العاقبة لبقية الشعوب العربية المهمشة و المضطهدة