تحاليل _ تحاليل تربوية _ المدارس الخاصّة في تونس.. جدلية الاستثمار وواقع المنافسة.
تعيش تونس في السنوات الأخيرة على وقع انتشار وتوسع كبيرين للمدارس الخاصّة شملا بالخصوص المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية، وسرعان ما بدأ يأخذ هذا التوجه طريقه نحو بعض الولايات الداخلية، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة والاستفسارات حول حقيقة المدارس الخاصّة، هل هي استثمار أم واقع فرضته المنافسة مع القطاع العمومي؟
التعليم في تونس مراحله متباينة وتكاد تكون متناقضة أحيانا. انطلق بمرحلة المدارس “القومية” والوطنية في الحقبة البورقيبية التي راهنت على التعليم كمشروع وطني لبناء الدولة الحديثة لينتهي إلى مرحلة المدارس التكوينية والإعدادية مع نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، حتى أن وزارة التربية والتعليم في تونس أصبحت تسمّى وزارة التربية والتكوين، ما يعني الانتقال من طور تعليمي يقوم على المبادرة والمشاركة والاكتشاف وغيرها من المميزات التي كان يتحلى بها الطلاب، إلى طور تكويني يقوم أساسا على فكرة “الطالب المشروع”، إن صحّ التعبير، وهي في الحقيقة فكرة مغلوطة.
وبعيدا عن أسلوب الركاكة التحليلية للظاهرة من زواياها المختلفة والمعقدة أحيانا، فإن المنهج قد يجد طريقه لبعض القضايا الأساسية العالقة التي تهم هذا القطاع الحيوي في تونس وغيرها من الدول العربية التي تمر بمراحل حرجة في مستوى الإصلاحات المطلوب القيام بها لتعديل ميزان هذا القطاع لتعود إليه الروح ويستعيد عافيته ويعود لتخريج أجيال يمكن البناء عليها مستقبلا.
طال التنظير للمسألة وهو أساسي لوضع الظاهرة في نطاقها الإقليمي والوطني، لكن اللافت في تونس أن التعليم بمختلف مراحله بدأ يأخذ منحى تصاعديا نحو الخصخصة التي شملت تقريبا كلّ المستويات، الابتدائي، الإعدادي والثانوي وصولا إلى الجامعي.
استثمار أم خصخصة
فكرة الخصخصة وتغيير منظومة التعليم ربما كانت في فترات سابقة توجها من الفاعلين والمسؤولين على القطاع في تونس نحو دعم انفتاحه على عدة تجارب أخرى لدول متقدمة على غرار فرنسا وأستراليا وغيرهما من البلدان التي تمتلك مؤهلات كافية لاختبار عدة نظم تعليمية دون التقيّد بها، لكن ما حصل في تونس هو العكس تماما. غابت المؤهلات الأساسية لتهيئة الظروف المناسبة لتغيير منظومة التعليم وغابت معها الإصلاحات الواجب اتخاذها بعد فشل تجربة منظومة “أمد” في ظل جشع نظام فاسد استغل ظروفا معينة للحصول على امتيازات وحوافز مادية، ما أفرز قطاعا تعليميا هشّا ومتهالكا غير قادر على تخريج أجيال نافعة عمليا وسلوكيا.
وفي سعي منها لتدارك أزماتها، على كثرتها، فتحت الدولة المجال واسعا أمام مشروع خصخصة التعليم. في الحقيقة مشروع المدرسة الخاصة في تونس (المدرسة المقصود بها المؤسسة التعليمية عموما، مدرسة، معهد، جامعة) بدأ الإعداد الفعلي له مع نهاية التسعينات من القرن الماضي بتركيز تجربة المدارس الدولية (الأولى مدرسة تونس الدولية في 1999 والثانية مدرسة قرطاج الدولية 2007). الرابط الزمني في مستوى ظهور هاتين التجربتين الجديدتين للمدارس الخاصة في تونس كان مقصودا من النظام السابق لعدة اعتبارات، أولا للتغطية على العيوب التي كانت تطبع منظومة التعليم العمومي بمجملها، ثانيا أن بعث التجربة الأولى (مدرسة تونس الدولية) جاء ليغطي على تجربة ثانية مخطط لها، ربما عن قصد أو دونه، لكن معلومة الجهات التي تقف وراء بعثها. ثالثا هو ما يمكن أن نطلق عليه الاعتبارات السياسوية للدولة في تلك الفترة والتي كانت تهدف إلى إعادة إنتاج وشرعنة نمط إنتاجها السائد. وبالموازاة مع طبقة محظوظة من المتنفذين ورؤوس الأموال قادرة على الدفع لتمكين أبنائها من تعليم جيّد وفرص تكوين أوفر دخلت مدارس التعليم العمومي في طور من الركود والتراجع الفعلي.
منافسة دون موازنة
التوجه نحو المدارس الخاصة يجد صداه في مفهوم الخصخصة كما في مفهوم الاستثمار. ثنائية تحكم المشروع التعليمي في تونس في السنوات الأخيرة، لكن برؤى متفاوتة ووجهات نظر مختلفة وآراء متباينة. حاولنا رصد آراء مجموعة مكونة من أستاذ جامعي ومدرس تعليم ثانوي، يدعمهما حوار أجريناه مع المتفقد بوزارة التربية والتكوين حسان غانم لإبداء وجهة نظره حول مسألة الانتشار الواسع للمدارس في تونس وتقييمه للجانب البيداغوجي.
الأستاذ في كلية العلوم الإنسانية بولاية جندوبة مصطفى مجاجرة يقول عن حقيقة ارتفاع معدل المدارس الخاصة في تونس في السنوات الأخيرة “هناك الغث وهناك السمين أيضا، لكن ستكون النتيجة واحدة؛ تعليم للأغنياء وتعليم للفقراء”. لكن أستاذ الجغرافيا التطبيقية وعلوم الأرض مدرك لحقيقة إصلاح المنظومة التعليمية قبل فوات الأوان ويؤكد ذلك بقوله “لا بد من الانكباب وبجد ودون تأخير على إصلاح المنظومة التعليمية”.
ويتوافق مع الأستاذ الجامعي زميله بالمعهد الثانوي بمدينة مكثر فتحي موسى الذي قال حول حقيقة توسع المدارس الخاصة في تونس “التعليم الخاص يقتل أبناء الفقراء لأنه يتطلب مقابلا يتجاوز قدرات ضعفاء الحال الذين لا يقدرون إلا على تعليم أبنائهم في المدارس العمومية”.
حول حقيقة المنافسة بين المؤسستين الخاصة والعمومية يقول موسى، “ما نعيشه اليوم هو انتشار أخطبوطي للمدارس الخاصة التي تضرب مجانية التعليم”. وعن رؤيته لإصلاح منظومة التعليم يرى أن “تفاقم نقائص التعليم العمومي يفرض على الدولة إعادة الاهتمام به أولا. فتجديد التجهيزات وتغيير طرق التدريس والتوزيع الأمثل للتلاميذ بين الأقسام لتفادي الاكتظاظ وتوفير أكلة صحية كلها عوامل ستعيد للمدرسة العمومية بريقها وقيمتها”.
المتفقد حسان غانم يقول بشأن تقييمه لواقع المدارس الخاصة في تونس من الناحية البيداغوجية، وهو المطلع على واقع هذه المدارس ومنظومة اشتغالها “في الحقيقة التقييم يلوح من جوانب عديدة وعبر دلائل وبراهين ملموسة: أولا من ناحية الكادر التعليمي المتوافر لدى هذه المدارس، والذي يعتبر فاقدا للتكوين وللكفاءة والخبرة العلمية وطبعا دون تعميم. ثانيا أن الأساس في طبيعة المواد المقدمة لتلاميذ هذه المدارس يركز على اللغات باعتبارها مطلوبة في سوق الشغل. هذا مطلوب، لكن من وجهة نظر تكوينية، فإن النتائج واضحة ومتباينة بين هذه المدارس نفسها في مستوى الكادر الذي يتولى تكوين التلاميذ لغويا. ثالثا فقدان كل ما هو جهاز رقابة على هذه المؤسسات لأن المسؤولية موكولة للإدارة، فهي المسؤول عن القبول والطرد والمحاسبة وكل ما يتعلق بمنظومة العمل داخل هذه المؤسسات”.
—————————————————————————————————–
*الحبيب مباركي.