تحاليل _ تحاليل سياسية _ المصالحة في تونس بين المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية. |بقلم: د. إبراهيم بن مراد*.
من المصطلحات السياسية التي ظهرت وشاعت منذ سنة 2014 مصطلح “المصالحة”، وقد عاد ظهوره بقوة في الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع فكثر استعماله وتداوله في الخطابات واللقاءات السياسية والمقالات الصُّحُفِيَّة؛ وهو مصطلحٌ أَثيرٌ لدى “الندائيين” بعد أن تبناه الرئيس الشرفي للحزب رئيس الجمهورية، وأعدّ له مشروع قانون أراد أن يُعْرض على مجلس نواب الشعب لإقراره، بعد أن كانت الطوائف السياسية، ومنها الإسلام السياسي، رافضة للمصالحة مع ساسة النظام السابق منادية بالمحاسبة والمعاقبة التي بدأتْ تطبّقُها بسن ما عرف بـ“قانون المصادرة”، وقد انتهت إلى إقرار قبول المصالحة لكن حسب تصور خاص تمثل في ما عرف بـ”قانون العدالة الانتقالية” الذي أوكلت أمر تنفيذه إلى رموز من معارضة النظام السابق التي تغلِّب المحاسبةَ والمعاقبة على المصالحة، ولعل السلوك الدكتاتوري الذي تمارسه رئيسة “هيئة الحقيقة والكرامة”، المكلفة بملف تلك العـدالة، أكبر دليل على سير هذه “العدالة” في اتّجاه واحد: هو المحاسبة.
وقد كان للإسلام السياسي نفسه دوره في المحاسبة والمعاقبة سواء بما قام به وزير العدل في حكومة حمادي الجبالي من عقوبات جماعية في سلك القضاة، أو بما سُلِّطَ أثناء حكم الترويكا بفترتيه من أحكام على وزراء الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي وعدد من رجال الأعمال إما بالسجن وإما بالمنع من السفر وإما بهما معا.
بـل إنّ بعـض الألسنة والأقـلام قـد تحـدّثت عن عمليات ابتزاز قد مورست على بعضٍ آخرَ بجرّهم إلى دفع “غرامات” أو “أتاوات” ماليّة للسكـوت عنهـم وتـرك تتبعهم.
وإذن فقد رجعت الدعوة إلى المصالحة من جديد بعد الأحكام العنيفة الصادرة هذه الأيام على بعضٍ من وزراء بن علي كانوا قد عرفوا باستقامتهم وبمشاركتهم المحمودة في خدمة البلاد ومصالحها أثناء توليهم لمسؤولياتهم، وعنف هذه الأحكام التي وصفها كثيرون بالصادمة دال على أن شقّ المحاسبة والمعاقبة الذي نشط في عهد الترويكا وتقوّى ما زال نَشِطا قويّا إلى اليوم.
بل إنّنا نقرأ في صحافة هذا الأسبوع لبعض دعاة المحاسبة والمعاقبة قوله أنْ “لا كرامة للشعب التونسي إذا مُرِّرَ قانون المصالحة”، وأن هذا القانون “وسيلةٌ لخدمة الفاسدين والمحافظة على بقاءِ أحزاب في السلطة”، وحسب هذا المنطق فإنّ المصالحة مقترنة بالفساد، وأنّ ما يُرادُ به منها هو خدمةُ مصالح بعض الأحزاب.
ولا شك أنّ القول بأن تمرير قانون المصالحة تعدّ على كرامة الشعب وأنه وسيلة لخدمة الفاسدين قول “ثورجي” مبَالغ فيه غايته إبطالُ المصالحة والمضيّ في طريق المحاسبة التي لم تميّز دائما بين البريء والمذنب.
فأن تُطبق المحاسبة على من استحقّ من أفراد العائلة التي كانت حاكمة لسطوه على المال العام وتكوينه ثروة طائلة تقدر بملايين الدولارات ما كان يستطيع تكوينها قبل مجيء العائلة إلى الحكم، مع ما تبع ذلك من تجنّ وتعدّ على حقـوق الغير ومن ضـرر أُلْحِقَ بمن اعْتُدِيَ عليه قد تكون نتيجتُه الموتَ قهرًا، يعـدّ أمرا ضروريا، كما أن تطبيق المحاسبة على رجال الأعمال الذين استفادوا من علاقاتهم بأفراد العائلة الحاكمة فحصلوا على التسهيلات الجمركية الجمة دون أداء الضريبة أو على القروض البنكية السهلة دون ضمانات عنها ودون تسديد لها يعدّ أمرا طبيعيّا، ويعتبر التسامح مع هذا الصنف من النـاس والتخلي عن تتبعه ومحـاسبته حماية للفساد وتشجيعا عليه.
فالمصالحة بعد المحاسبة الدقيقة في هذا المقام تصبح مصلحة وطنية. وأما أن تطبق المحاسبة على موظفي الدولة لأنهم نفذوا أوامر قد طولبوا بتنفيذها من أعلى هرم السلطة – مثل الحكم بالسجن بخمس سنوات على وزير دفاع عرف باستقامته لأنه قبل التفويت في أرض للعائلة الحاكمة من أجل بناء قصر – أو لأنهم شاركوا عن حُسن نية ودون تحقيق ربح خاص لهم بعضَ أفراد العائلة في بعض نشاطهم بحكم مسؤوليتهم في الحكومة – مثل الحكم بالسجن بست سنوات مع النفاذ العاجل على كاتب دولة للشباب والرياضة مشهود له بالنزاهة لأنه سهّل تنظيم حفل غنائي خيريّ أشرف على تنظيمه بعض أفراد العائلة – فليس له أي ضرورة ولا يعد طبيعيّا بأي وجه من الوجوه، وليس في ما قام به الوزير أو ما فعله كاتب الدولة ما يدل على تعدّ على كرامة الشعب أو أيّ خدمة للفاسدين.
والمصالحة في هذا المقام لا تحتاج إلى محاسبة ما دامت لم تقترن بتحقيق مصالح خاصة. وأما القول بأن في المصالحة خدمةً لمصالح بعض الأحزاب فليس بعيدا عن الصواب تماما.
والتلميح والتصريح في هذا المقام موجهان إلى حزبين في السلطة هما حزب نداء تونس وحزب حركة النهضة، ولكن استفادة الحزب الثاني من المصالحة في الظرف الراهن أكبر.
فقد قرأنا في صحافة الأسبوع الماضي عن رأي حزب حركة النهضة في المصالحة كما يُفْهَمُ من موقف رئيسِه إذ هي عنده “مصالحة انتقائية”، لأن المستفيدين منها ممّن كانوا يُعتبرون “أزلام النظام السابق” هم الذين “حجّوا إلى مونبليزير” أي إلى مقر حزب حركة النهضة ليحصلوا على “صك الغفران” وينجوا من التتبّع.
وما زال التونسيون يتابعون أخبار المسؤولين “التجمعيين” السابقين المتوافدين على مقر الحزب إعلانا للتوبة وطلبا للنجاة من المحاسبة إن كانوا ممن يحق عليهم ذلك. ولم تْخفِ الصحافة ظاهرة الانتقاء في نجاة الأمين العام السابق للتجمّع محمد الغرياني من أي تتبع نتيجة حصوله على مباركة رئيس حزب النهضة، ثم في تتبع التيجاني الحداد وزير السياحة الأسبق والحكم عليه في قضية حفل المطربة ماري كاري الخيري بالسجن لمدة ستّ سنوات مع النفاذ العاجل لأنه اتهم النهضة أثناء مشاركته في الحملة الانتخابية في خريف 2014 بأنها تستغل التجمعيين لخدمة مصالحها. وقد اتصل به رئيس حزب النهضة هاتفيا بعد صدور الحكم عليه بالسجن ليعبّر له عن مساندته، وليس هذا الاتصال في نظر الملاحظين إلاّ حركة سياسية دبلوماسية ذكية لعل مغزاها الأصلي هو استمـالة الوزير الأسبق وإشعـاره بأن أبواب مقر الحزب مفتوحة أمامه أيضا. لكن لاستفادة حزب حركة النهضة من المصالحة الوطنية وجها آخر مهما.
فإن من المطالبين بالمحاسبة اليوم مَن يريد تطبيقها على حكومتي الترويكا اللتين أدارتهما حركة النهضة، فإن من المعارضين لها من يوجه أصابع الاتهام إلى بعض وزرائها، ووزراء حزب المؤتمر باستغلال النفوذ وتبذير المال العام ويطالب بمقاضاتهم.
كما أن لحركة النهضة تاريخا قبل 14 جانفي 2011 يوم كانت تسمى “الاتجاه الإسلامي” وقد صدرت عن أتباعها أعمال استوجبت محـاكمتهم والحكم عليهم بالسجن بل بالإعدام في بعض الحالات، وقد استفادوا من العفو التشريعي العام بعد 14 جانفي ثم استفادوا من التعويضات التي أسنـدتها إليهم أغلبيتهم الحـزبية في المجلس الوطني التأسيسي وكان ينبغي أن يخضعوا هم أيضا للمساءلة والمحاسبة ضمن تطبيق قانون العدالة الانتقالية، لكنّهم ما زالوا يُنكرون ما يُتّهمون به ويجعلون أنفسهم ضحايا، ولا شكّ أنّ تطبيق قانون العدالة الانتقالية تطبيقا عادلا على أيدي أناس محايدين لا ينتمون إلى معارضي النظام السابق سيُظهر حقائق مخفية كثيرة عن العنف الذي كان يمارسه الضحايا المتظلمون اليوم وخاصة أتباع الإسلام السياسي.
وعندئذ تصبح المحاسبة عادلة، لأنّها تطبّق على كلّ من استوجبها، وتصبح المصالحة ذات مفهوم وطني حقيقيّ، تؤدّي إلى فتح صفحة من الحياة الوطنية جديدة.
————————————————————————
* كاتب وجامعي تونسي