تحاليل _ تحاليل فنّية _ فيلم “تراجيديا دولة الاستقلال”.. طريق ثالث للمصالحة في تونس.
يعتقد المؤرخ الجامعي خالد عبيد كاتب سيناريو الفيلم الوثائقي “تراجيديا دولة الاستقلال”، أنه لا سبيل لعقد مصالحة وطنية صادقة في تونس دون أن يكون هناك دور محوري للمؤرخين من أجل فهم صحيح لما حدث في الماضي.
وفيلم “تراجيديا دولة الاستقلال” الذي يسرد الوقائع المرتبطة بمحاولة الانقلاب على حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في شتاء 1962 أي بعد سنوات قليلة من الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي عام 1956، يقدم اليوم نفسه كمشروع بديل لمصالحة وطنية بدل مشروع “هيئة الحقيقة والكرامة” المكلفة قانونا بالتقصّي حول انتهاكات الماضي، لكن تلاحقها اتهامات بالانتقائية والتوجيه والسقوط في التشفي.
ويقول المؤرخ خالد عبيد في تصريحات لـ“العرب” إن “الفيلم لا يذهب إلى التأليه أو الشيطنة والتخوين، بل إنه يقدم نفسه كطريق ثالث يؤسس لمصالحة تنفذ إلى القلوب بدل زراعة الأحقاد. هذا ما تحتاجه تونس بعد أكثر من نصف قرن عن تراجيديا 1962”.
ويعد الفيلم الوثائقي الذي أخرجته الإعلامية مبروكة خذير، إحدى المحاولات الجريئة والقليلة في مجال التقصّي حول ملابسات أخطر حدث ارتبط بالدولة الناشئة بعد الاستقلال، وظلّ على مدى عقود طويلة محلّ خلاف بين أطياف من السياسيين ومصدر نعرات جهوية حتى اليوم.
كما يكتسب الفيلم أهمية بالغة كونه يغوص على مدى ستين دقيقة في تفاصيل كثيرة مظلمة عن أحداث الانقلاب وفظائع عن التعذيب وأحكام الإعدام والدفن، عبر شهادات لعائلات الضحايا والسجناء المدنيين والعسكريين الذين بقوا على قيد الحياة، وذلك في ظل إحجام السلطة عن فتح الأرشيفات الرسمية حتى اليوم.
ويؤكّد الطاهر بلخوجة الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكم بورقيبة لـ“العرب” أنه “لا يمكن أن نتجاوز تاريخنا. وتاريخ تونس، تاريخ متحرّك ويتضمن فترات هبوط وصعود. هناك محطات مؤلمة وأخرى سارّة”.
وتشير الأحداث المتداولة في الصحافة والمجتمع المدني والتي ذهب الفيلم إلى تأكيد أجزاء منها إلى اتفاق عدد من المدنيين المتحمسين من الشباب والعسكريين على تصفية الزعيم الحبيب بورقيبة في مقر إقامته الصيفية بمدينة الكاف غرب تونس آنذاك، لكن المخطّط تم كشفه في آخر لحظة بعد أن سيطر الخلاف على المدنيين والعسكريين لينتهي باعتقالهم جميعا وتنفيذ أحكام الإعدام على خمسة عسكريين من بين سبعة، وخمسة مدنيين بجانب أحكام أخرى بالسجن انتهت بإقرار عفو عام 1973.
ويكشف الفيلم عن تفاصيل الإعدام بالرصاص وعملية الدفن السرّية للمحكومين التي تمّت من قبل كتيبة عسكرية في ليلة شتاء بمنحدر في منطقة “بئر بورقبة” بمحافظة نابل على بعد 60 كيلومترا من العاصمة.
وتشير التفاصيل التي أوردها الفيلم إلى استخدام مادة الجير فوق الجثث أثناء الدفن، كما تكشف لاحقا عن عمليات تعذيب قاسية حدثت لباقي المحكومين وهم مقيدون بالسلاسل في سجن “برج الرومي” ، في غرف مظلمة وفي عمق 37 درجة تحت الأرض.
ينقل الفيلم شهادات من عائلات الضحايا الذين اعدموا، كيف ارتبط بورقيبة بعلاقات وطيدة مع جماعة الانقلاب وفي مقدمتهم المناضل الشهير لزهر الشرايطي، الذي طالما اعتبره ابنا، قبل كشف المؤامرة. وكيف تحوّل هذا الارتباط العاطفي القائم على النضال المشترك ضدّ المستعمر، إلى قصاص مؤلم.
يحاول الفيلم الوصول في نهاية المطاف إلى اعتبار أحداث 1962 “مسألة عائلية” تلخص ردة فعل أب غاضب تجاه عقوق أبناء وخيانتهم، مع أنه تضمن كذلك الإشارة إلى سيل الاتهامات والتلميحات نحو تورط محتمل للخارج، أساسا للرئيس الجزائري في تلك الفترة أحمد بن بلة والمصري جمال عبدالناصر، التي وردت في خطابات بورقيبة بعد كشف المؤامرة.
ويشدد عبيد أنه “من الأهمية ألّا يتم إسقاط واقع اليوم على الظرفية المصاحبة لأحداث 1962 في بدايات تأسيس الدولة، والقصد من ذلك المنحى الذي يتخذه المعارضون لبورقيبة من أن محاولة الانقلاب كانت خطوة نحو التصحيح والتعددية ضد الحكم الفردي وليست خيانة دولة”.
لكن الأمر المختلف في هذا الفيلم حيث أفضى الحديث مع النائب المخضرم علي بن سالم أحد الأعضاء المدنيين في انقلاب 1962 إلى كشف رواية جديدة، وهي أن الجماعة لم يكن في مخططاتها تصفية بورقيبة جسديا وإنما كان الهدف إبعاده عن الحكم.
ويوضح بن سالم الذي حضر عرض الشريط، لـ”العرب” أن “بورقيبة لم يعد يصغي إلى أي كان من حوله. أصبح منفردا بالقرارات والحكم وكان أكبر خطإ أفاض الكأس هو قراره الدخول في نزاع مسلح مع فرنسا في مدينة بنزرت”.
في نظر بن سالم ورفاقه كانت حرب بنزرت، آخر القواعد العسكرية التي احتفظت بها فرنسا في تونس بعد استقلالها، غير متكافئة بالمرة وكلفت تونس رقما ضخما من الأرواح لا يزال حتى اليوم محل خلاف بين الدولة والمجتمع المدني، إذ تقدر الدولة عدد القتلى بالمئات بينما تشير إحصائيات مستقلة إلى سقوط أكثر من خمسة آلاف ضحية.
ويتابع بن سالم “الجنرال ديغول كان أعلن قبل ذلك عن مغادرة فرنسا لقاعدتها في بنزرت. لا أعتقد أن هناك ما يخشاه ديغول إذا كان ينوي البقاء. يبقى قرار بورقيبة لحمل السلاح في بنزرت غير مفهوم وغير مبرر ويفترض منطقيا أن يكون بورقيبة قد أخفى الكثير من الحيثيات حوله”.
في كل الأحوال يعتقد المؤرخ خالد عبيد أن “ما يجب الاحتفاظ به في معركة الاستقلال أنه قد تم تحرير أرض تونس بشكل كامل بعد إجبار القوات الفرنسية على الجلاء التام في أكتوبر عام 1963، مع أن ذلك حدث بأخطاء كبيرة وبتضحيات مكلفة”.
فيما يقر السجين السابق عن أحداث 1962 علي بن سالم، النائب عن حزب النداء الحاكم والذي يقدم نفسه وريثا للفكر البورقيبي بأن “أخطاء بورقيبة كثيرة لكن في أفريقيا لا أحد يضاهي بورقيبة.. بورقيبة أسّس دولة!”.
———————————————————————————
العرب / طارق القيزاني.