تحاليل _ تحاليل سياسية _ تطاوين والحسيمة: ربيع مغاربي جديد؟. |بقلم: شادي لويس.
في تونس، خطوة للخلف تم تجاوزها
على طائرة الخطوط الجوية التونسية المتجهة إلى تونس، كانت جريدتا الصباح والشروق هما المتاحتين بالعربية. الرحلة التي لم تتجاوز الساعتين سوى بعشرين دقيقة، سمحت لي بقراءة الجريدتين متواضعتيْ الإخراج ثقيلتيْ المحتوى. فبين أزمة استقالة شفيق صرصار، رئيس الهيئة العليا للانتخابات واثنين من أعضائها بشكل مفاجىء، وتصاعد الخلاف حول قانون المصالحة الوطنية الذي اقترحته الحكومة وقوبل بنقد شديد على المستويين السياسي والشعبي، هيمنت على عناوين الصحيفتين الآمال المعقودة على خطبة الرئيس التونسي التي كان مزمعًا أن يلقيها صباح ذلك اليوم، على خلفية الاحتجاجات الواسعة في منطقة تطاوين.
بمجرد وصولي إلى العاصمة التونسية، نصحني مضيفي المصري أن أتحرك في المدينة بجواز سفري، فخطبة الرئيس التي خيبت الآمال، والتي لم تأت بجديد سوى استدعاء الجيش لتأمين مؤسسات النفط في وجه الاحتجاجات في تطاوين، كانت بحسبه سببًا للقلق ومدعاة لالتزام الحرص.
في الأيام القليلة اللاحقة، شهد شارع بورقيبة، وهو الشارع الذي شهد الصور التي ستعلق بالذاكرة لانطلاقة الانتفاضات العربية، مظاهرات «مانيش مسامح». ورغم أن هذه المظاهرات كانت موجّهة ضد قانون المصالحة إلّا أنها لم تخل من هتافات لتطاوين، و هتاف «الشعب يريد تأميم الثروات».
في الجنوب، وعلى أحد الطرق السريعة، كان مشهد وحدة الجيش المتمركزة بجانب أحد خطوط البترول، في مواجهة خيام المعتصمين المطالبين بالتوظيف، مقبضًا لي، ودلالةً أخرى على عمق الأزمة، خاصة بعد أن أثار خبر مقتل محتج في تطاوين على خلفية مواجهات مع الأمن المزيد من الاحتجاجات الغاضبة.
تعود الأزمة السياسيّة التونسية على مستوى المؤسسات والاحتجاجات الشعبية في الجنوب إلى عدد من العوامل. فمن جانب، يبدو أن الاستحقاقات الانتخابية، التي انخرطت فيها تونس على مدى الأعوام الماضية، والتي انتهت بوصول السبسي، أحد رموز حقبة بن علي، إلى منصب الرئاسة، وعودة رجالات النظام القديم ممثلًا في حزب النداء في تحالف مع حركة النهضة لتشكيل حكومة ائتلافية، كخطوة إلى الوراء. خطوة لا تشكك فقط بجدوى العملية الديمقراطية، بل في إمكانية التعامل مع الماضي ومواريثه التي تتجاوز مشكلة عودة الوجوه القديمة. فالغضب المتصاعد ضد قانون المصالحة المقترح، والذي يكتفي باسترجاع أموال الفساد بالإضافة إلى فائدة سنوية، دون معاقبة المسؤولين عنه والمتربحين منه، لا تعد مشكلته في نظر الرافضين له في مجرد سماح للجناة بالإفلات من العقاب، ولكن في خلوّه من منطق الردع المستقبلي، أي استعادته لمنظومة متكاملة من تحالف الفساد السياسي والاقتصادي.
يكشف الانتفاض الاحتجاجي ضد النخبة السياسية على خلفية قانون المصالحة عن محورية الجانب الاقتصادي والاجتماعي في الحراك الحالي، ويقودنا إلى الجانب الثاني منه.
كان من أسباب الثورة التونسية، التي بدأت في سيدي بوزيد، الاحتجاج على التهميش الذي يعاني منه الداخل التونسي المحروم من الاستثمارات والخدمات الحكومية، لصالح الساحل ومدنه منذ الاستقلال. ورغم مرور سنوات على الثورة إلّا أن هذا التهميش يبدو اليوم على حاله، ولم يقلل من حدة هذا الشعور بالتهميش لا الإصلاحات الديمقراطية ولا سقوط الدولة البوليسيّة. وهو ما أعاد إنتاج الاحتجاجات في المنطقة الجنوبية الأكثر تهميشًا.
لكن احتجاجات تطاوين، التي بدأت مع اعتصام الكامور في أفريل هذا العام، والتي سرعان ما تصاعدت مطالبها من التوظيف في شركات النفط في المنطقة، إلى مطالب أوسع لعدالة في توزيع الثروات والاستثمارات الحكومية بين الساحل والداخل، وإن كانت تبدو امتدادًا لشرارة الثورة التونسية وأسبابها، إلا أنّها تظل متمايزة عنها بشكل جوهري. فبالرغم من هتافات «الشعب يريد إسقاط النظام» ذات الطابع الطقسي، والتي كان يمكن سماعها أحيانا في تظاهرات الأسابيع الماضية في العاصمة وخارجها، كان الصوت الأعلى لهتافات «إسقاط الفساد» و«تأميم الثروات». ويبدو أن هنالك إجماعًا تونسيًا على مغادرة مرحلة إسقاط النظام، والتمسك بمكتسبات المؤسسات المنتخبة والعمليات الديمقراطية على سوء نتائجها، يدفع الحراك السياسي إلى ما هو أبعد، أي الملفات الاقتصادية والاجتماعية.
الريف: أزمة متجددة وانتكاسة
قبل عام، تصادف مروري على الميدان الرئيسي في العاصمة المغربية، الذي شهد حينها مظاهرات في الذكرى الخامسة لحراك العشرين من فبراير، وهو النسخة المغربية من انتفاضات الربيع العربي. الحراك الذي تم تدجينه سريعًا عبر الإصلاحات الدستورية التي طرحها الملك في وقت مبكر من الاحتجاجات وتم إقرارها لاحقًا، لم تجتذب ذكراه الكثير من المحتجين، فلم يتجاوزوا العشرات، ولم تتعدّ هتافاتهم: «الشعب يريد إسقاط الدستور الممنوح»، فيما كانت قوات الشرطة مسترخية على بعد أمتار.
لكن الأمور تبدو اليوم على غير حالها قبل عام، فالأزمة السياسية التي عصفت بحكومة بنكيران لأكثر من نصف العام، وانتهت بإقالة الملك له في أبريل الماضي، وتنصيب حزب العدالة والتنمية لسعد الدين عثماني بدلًا منه رئيسًا للوزراء، نظر لها الكثيرون كخطوة للوراء عن مكتسبات حراك العشرين من فبراير، وكاستعادة من القصر لسيطرته الكاملة على الساحة السياسية، بعد تنحيته لبنكيران ومعه الجناح الأكثر استقلالية في حزب العدالة والتنمية.
لكن، وكما في الحالة التونسية، فإن اندلاع الاحتجاجات في منطقة الريف المغربي، وتضامن العديد من المدن المغربية معها، لم تكن متعلّقة بأزمات سياسية، بل تفجرت على خلفيات اقتصادية واجتماعية. فمقتل تاجر السمك، محسن فكري، سحقًا داخل شاحنة لجمع النفايات أثناء احتجاجه على مُصادرة كمية من السمك من قبل السلطات بمنطقة الحسيمة في أكتوبر من العام الماضي، قاد سلسلة من الاحتجاجات مطالبةً بمحاسبة رجال الشرطة المتورطين. وسرعان ما توسّعت مطالبها إلى محاربة الفساد والاحتكارات، وتوزيع أكثر عدالة للثروات والخدمات في منطقة الريف المغربي، التي لطالما عانت من التهميش منذ الاستقلال وبعد خروج الاحتلال الإسباني، مما جعل المنطقة بؤرة للانتفاضات المتتابعة خاصة أثناء ولاية الملك الحسن الثاني. وبالرغم من الاتهامات الموجهة للاحتجاجات بوصفها إحياءً لفكرة استقلال الريف وتهديدًا للوحدة الوطنية، فإن تصريحات قادة الحراك وتضامن المحتجين في بقية المدن المغربية وحتى بين أعضاء الجاليات المغربية في العواصم الأوروبية، لا تترك مجالًا للشك في جوهرية الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية للحراك.
ليس ربيعًا جديدًا ولا عودة للماضي
في تونس، لم يخفف تورط الجيش في التصدي للاحتجاجات من حدتها، بل وربما العكس. لكن إعلان السلطات عن إلقاء القبض على عدد من رجال الأعمال والموظفين الحكوميين بينهم قيادات أمنية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، في إطار حملة موسعة ضد الفساد، قاد إلى تخفيف حالة الاحتقان في الشارع التونسي بالرغم من تشكيك الكثيرين في نوايا الحكومة، وانتقائية حملتها، وأغراضها الدعائية. في الوقت ذاته تستمر الحكومة في التفاوض مع ممثلي المحتجين في تطاوين، وتذيع القنوات التلفزيونية جلسات استماع «هيئة الحقيقة والكرامة» على الهواء مباشرة، فيما خفت الحديث، إلى حين، حول تمرير قانون المصالحة. أمّا في المغرب، فإن إلقاء القبض على ناصر الزفزافي، أحد قيادات احتجاجات الريف، في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، قاد إلى تصاعد الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، ويبدو الأمل في تراجع الاحتقان على المدى القريب محدودًا، دون انخراط السلطات في حوار هادىء مع المحتجين وممثليهم بعيدًا عن اتهامات التخوين والعمالة للخارج.
خرجت كلٌ من تونس والمغرب بأكبر قدر من المكاسب وأقل الخسائر من موجة الانتفاضات العربية. وإن كان إسقاط النظام في تونس، والإصلاح الدستوري المغربي المحدود، قد انتهيا إلى حكومات ائتلافية بين الأحزاب الإسلامية والنخب السياسية التقليدية، فالاحتجاجات الحالية لا ترجع إلى خيبة الأمل في ما أفضت إليه الانتخابات الديمقراطية، وتتجاوز مطالب تغيير النظام أو إسقاط الدستور إلى مطالبات اقتصادية واجتماعية تتعلق بتوزيع الموارد والأعباء وإدارتهما. وبالرغم من أن المناطق المهمشة في الداخل التونسي، وكذلك الريف المغربي، لطالما شهدت انتفاضات متوالية منذ الاستقلال، تم إخمادها بالعنف المفرط من قبل السلطات دائمًا، فإن الاحتجاجات الحالية في كلا البلدين ليست مجرد استعادة لدورة الماضي؛ ففي تونس على وجه الخصوص، يبدو أن الاتفاق على شكل المؤسسات الديمقراطية وترسيخ الدستور بالتوافق بين تيارات المجتمع العلمانية والإسلامية قاد إلى تجاوز أسئلة السياسة المباشرة، والتقدم نحو تشكيل جوهر السياسة الاقتصادي والاجتماعي. أمّا في المغرب، فربما سيكشف المستقبل القريب عن مدى قدرة النخبة الحاكمة، وعلى رأسها مؤسسة القصر، على الانخراط في عملية أبعد من الإصلاحات الدستورية والسياسية لتطال الجوهر الاقتصادي والاجتماعي.
ربما ما تشهده البلدان ليس ربيعًا جديدًا، ولا مجرد إعادة لانتفاضات الماضي الاجتماعية، بل خطوة أبعد إلى الأمام، ترتكن إلى قليل من الثقة والاتكاء على المؤسسات الدستورية، والتي مع هشاشتها أتاحت فرصة لنفض الأيادي من مرحلة الإصلاح السياسي بمعناه المباشر، لصالح معانيه الأعمق والأشد جوهرية وإلحاحًا.