تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس: تقرير هيئة «الحقيقة والكرامة» قد يقضي على المستقبل السياسي للأحزاب الحاكمة.
حدّدت الحقوقية التونسية فرح حشّاد أخيرا هوية من يحفرون قبر العدالة الانتقالية في تونس، مشيرة إلى «المهزلة القانونية» التي شهدها البرلمان التونسي بعدما صوت نواب الحزب الحاكم وحلفائهم ضدّ التمديد لهيئة «الحقيقة والكرامة» لبضعة أشهر.
واعتبرت فرح حشّاد في مقال نُشر أخيرا في صحيفة «لوموند» الفرنسية أنّ النواب الذين صوتوا ضد التمديد يتجاهلون مستقبل 200 ألف مواطن تونسي هم ضحايا التعذيب والتنكيل والتهجير، وينتظرون منذ سبع سنوات الحصول على حقهم في محاسبة الجناة وإعادة الكرامة والاعتبار للضحايا، مشيرة إلى أن من يعطل عمل الهيئة، يخشى من نجاحها في إصدار تقريرها النهائي الذي قد يقضي على مستقبله السياسي، وخاصة أن التقرير يفترض أن يصدر قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
نحن إذا أمام طرفين في معادلة «الحقيقة والكرامة» التونسية، نواب هم أشبه بـ«جلاّدين» يسارعون لتعطيل هذا المسار الذي لا بد منه لتحقيق المصالحة والاستقرار في تونس، وضحايا قد يدفعهم اليأس – في حال تعطيل عمل الهيئة – إلى البحث عن «أساليب» أخرى لتحصيل حقهم من الجناة وهو ما قد يعيد البلاد لمربع العنف ويحوّل العدالة الانتقالية إلى أخرى «انتقامية» ويضع المسار الديمقراطي الوليد على المحك.
وبلغة الأرقام، ثمة 63 نائبا (العدد الحقيقي للمصوتين ضد الهيئة) يطالبون بالمصالحة بدون محاسبة و63 ألف ضحية (عدد الملفات التي تلقتها الهيئة) يرغبون بالمصالحة بعد المحاسبة، إضافة إلى أكثر من 11 مليون تونسي يرغبون بكشف الحقيقة ومحاسبة الجُناة الحقيقيين وإعادة كتابة تاريخ البلاد المعاصر ومتابعة المسار الديمقراطي والقطع مع الممارسات الديكتاتورية السابقة إلى الأبد.
أحد المراقبين وصف مشهد احتفال نواب الحزب الحاكم بعد «نجاحهم» في التصويت ضدّ تمديد عمل هيئة الحقيقة والكرامة بـ«الرقص على جثث الضحايا»، ويبدو أنّه أصاب في ذلك، فبعد ساعات من هذا المشهد «التراجيدي»، سارع الحزب الحاكم وأحد شقوقه للحديث عن مشروع «عدالة انتقالية» جديد يتم تفصيله على مقاس الطُغمة الحاكمة، بحيث تتم «مصالحة» الجناة دون محاسبة و«معاقبة» الضحايا إذا لم يقبلوا بهذه المصالحة المفروضة من قبل جلاّديهم والمطعّمة بشعارات رنّانة وجوفاء تتغنّى بالعدالة من دون أن تطبّقها.
اللافت في «المهزلة البرلمانية» الأخيرة هو التشنّج الكبير لدى نواب الحزب الحاكم وحلفائهم، وخاصّة بعد رفض حركة «النهضة» المشارَكة في هذا السيناريو العبثي وانسحاب نوابها بهدوء من جلسة التصويت ضدّ هيئة «الحقيقة والكرامة»، وهو ما يبرّر الهجم العنيف على الحركة وتوجيه تهم مزيّفة لنوابها ونعوت تتعلّق بالتطرّف وغيره، فضلا عن مهاجمة رئيسة الهيئة سهام بن سدرين، ومحاولة تحريف حقيقة الصراع ليبدو وكأنّه ضدّ شخصها وليس ضدّ مسار العدالة الانتقالية بأكمله، الأمر الذي دفع أحد نواب المعارضة للقول إنّ بن سدرين هي العدالة الانتقالية والعكس صحيح، مشيرا إلى أنّ المعارضة ستواصل دعم الهيئة ورئيستها لحين استكمال عملها.
خبير في القانون الدستور وصف ما حدث خلال جلسة التصويت ضدّ التمديد للهيئة بأنها عبارة عن «مسرحية» ومحاولة لاغتيال القانون، مشيرا إلى أنّ رئاسة البرلمان ارتكبت مغالطات عديدة تتعلّق بتخصيص جلسة للتصويت على التمديد للهيئة، في حين كان من المفترض اكتفاء الهيئة بـ«إعلام» البرلمان بقرار تمديدها لعملها لسنة إضافية، وهو ما ينصّ عليه قانون العدالة الانتقالية صراحة في فصله الثامن عشر.
لكن ما الذي يخشاه نواب الحزب الحاكم وحلفاؤهم إذا تم نشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة، في حال كانت صفحتهم بيضاء كما يؤكّد أغلبهم؟ إلّا إذا كان التقرير المختص بالكشف عن «الحقيقة» الغائبة منذ عقود والتي ينتظرها ملايين التونسيين، سيقدم حقائق جديدة قد تؤثّر سلبا على صورة هؤلاء النواب أمام الرأي العام التونسي، وقد تقضي على مستقبلهم السياسي قبل أشهر من الانتخابات المُقبلة (كما أسلَفنا).
وبغض النظر عن نشر التقرير من عدمه، هل ما زال هؤلاء النواب وسواهم يعتقدون أنّ الناخب التونسي سيمنحهم ثقته بعدما فهم سيناريو «اللعبة السياسية» القائمة على خداع الناس بشعارات برّاقة من قبيل القضاء على الفقر وإقامة مشاريع رائدة توفّر الآلاف من فرص العمل وخاصة في المناطق المهمّشة منذ عقود، فضلا عن تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي عموما؟
يبدو هذا غير منطقي في الواقع، فالتونسي أدرك خداع السياسيين في مناسبات انتخابية عدّة ولن يتورّط مجدّدا في هذه المهزلة السياسية، رغم أنّ المال السياسي لدى الطغمة الحاكمة قد يتمكّن من «شراء» عدد لا بأس به من الناخبين (وفق تعبير أحد زعماء المعارضة)، ولكن علينا أوّلا انتظار نتيجة الانتخابات البلدية المُقبلة وتجربة الحكم المحلّي التي ستفرز بلا شكّ واقعا سياسيا جديدا في تونس، وهي محطّة أساسية في تاريخ البلاد، وما يأتي بعدها (بإيجابياته وسلبياته) لن يشبه بالتأكيد ما قبلها، وخاصة أنّنا سنكون أمام قيادات سياسية شابة تحمل هموم الواقع وتناقضاته وتمتلك بعضا من حلولها.