تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس في انتظار معجزتها الخاصّة. |بقلم: مصطفى القلعي*.
إن شرارة الثورة التي لمعت في تونس في 17 ديسمبر 2010 تدل على أن الشعب التونسي يؤمن بأن الحياة التي لا تكرس لهدف محدد هي غلطة. فبحثا عن معجزته الخاصة ثار على الاستبداد والاستغلال والقمع والسرقة والفساد، ولكن هذا الشعب لم يفهم ماذا أصابه حتى تنحرف طريقه نحو منعرجات لم يخترها، وإنما اختارها من حكموه أو من طلعوا فجأة في تاريخه دون دعوة ولا سابق إعلام لا سيما التكفيريين ودعاة الشريعة والخليفة.
عرف الشعب التونسي باحترامه للمقدسات عبر العصور، ولكن منذ استقرار الإسلاميين على أرض تونس عائدين من المنافي الاختيارية أو خارجين من السجون معفيّا عنهم أو هاربين منها أو نازعين عنهم كل أشكال التقية والتخفي التي ناوروا بها نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تحولت دور العبادة إلى مقرات لممارسة الدعاية السياسية الإسلاموية، من جهة، وللتحريض على سدنته وخدمه من غير الإسلاميين من جهة ثانية. من هنا بدأ الشعب التونسي يشعر بظهور بوادر تلاشي معجزته الخاصة.
فضاعف من منسوب الأمل فيه عبر الضغط بكل الوسائل لدسترة الحقوق والحريات وتضمين المؤسسات في دستور 2014 بعد تحريره من احتجاز الأغلبية الإسلامية. لا شيء بلا ثمن طبعا في حركات الشعوب وتاريخها. وقد دفع الشعب التونسي الثمن غاليا من أجل أن يحافظ على الأمل في معجزته حيا، وهو يخشى أن يضطر يوما إلى أن يستعيد الخيال كمن يمشي أثناء النوم بعينين مغمضتين ويدين ممدودتين. فالطريقة السحرية لخداع النفس هي الذكرى ولا شيء يؤذي التونسيين اليوم أكثر من مجرد التفكير في أن تتحول ثورتهم وتضحياتهم إلى مجرد ذكرى.
من المؤسسات التي تم تضمينها في الدستور التوافقي لعام 2014 هي هيئة الحقيقة والكرامة التي ينص قانونها الأساسي على أداء مهمة أساسية تحتاج إليها تونس هي مهمة المصالحة ضمن العدالة الانتقالية التي كان التونسيون يتفقون على أن لا بديل عنها لكشف الحقائق كلها أمام الشعب والتاريخ وضمان الكرامة للجميع سواء من سلبت منه في عهد الاستبداد أو بعد الثورة.
المشكلة تكمن في أن التونسيين غفلوا عن تحديد العلاقة بين المصالحة والكرامة، فهل تسبق إحداهما الأخرى أم هما متجادلتان ترتبط كلّ منهما بالأخرى بشكل شرطي؟ مفاهيم المصالحة والكرامة ومدلولاتهما أيضا ظلت غامضة، والغموض مدخل للتأويل والتأويل قد يكون بابا لاجتهادات محمودة أو غير محمودة إذا تطلّعت للخروج عن السيطرة. والخشية كلها أن تتخذ المصالحة والكرامة خطين متوازيين لا يلتقيان على المصلحة الفضلى للوطن، بل يلتقيان على مصالح وحسابات ضيقة مضرة بوحدة الوطن.
فحين التبست النوايا توزعت المصالحة بين مؤسستين لم تظهرا الودّ لبعضهما أبدا هما مؤسسة رئاسة الجمهورية وهيئة الحقيقة والكرامة. فلا رئيس الجمهورية حضر جلسات الاستماع التي تشرف عليها هيئة الحقيقة والكرامة، ولا رئيسة الهيئة وأعضاءها يقعون في دفتر عناوين الرئاسة. الواقع اليوم أنّ هناك خطين متوازيين للمصالحة أحدهما يستقوي بالبرلمان، والثاني بالدستور.
ومنذ يومين دخلت الحكومة على الخط وتحركت في اتجاه آخر مغاير للسابقيْن هو اتجاه سلطة تنفيذية تفي بوعد قطعته على نفسها في محاربة الفساد. وفي خطوات مفاجئة راجت أنباء عن اعتقال مجموعة من العالقة بهم شبهات فساد وإفساد.
والغاية يجب أن تكون المحاسبة والقصاص إلى جانب المصالحة. فالمصالحة فهـم الجميع أنها لا يمكن أن تكون بمعنى السماح والغفران لأفاع ما انفكّت تجيل سمّها صلب المجتمع والدولة والمؤسسات والإعلام والصحة والتعليم، وكل مجالات الحياة والنشاط. وهكذا لمعت من بعيد ومن جديد شعلة المعجزة الخاصة للشعب التونسي.
لكنّ شقّا من التونسيين يرون أن المشكلة تقع في الكرامة التي مازالوا يفتقدون ألقها الكامل. وشق آخر منهم يرى أن الدولة في مختلف مراحلها سواء أثناء الحكم الانتقالي لسنة 2011 أو أثناء حكم الترويكا من ديسمبر 2011 إلى يناير 2014 أو بعد انتخابات 2014 لم تعمل على ضمان هذه الكرامة المفقودة.
فبعض القرارات الضرورية كانت بين يديها مثل التدقيق في ديون النظام السابق شأن كل الشعوب التي ثارت على الفساد، أو عبر مراجعة عقود استغلال الثروات الطبيعية من نفط وغاز وملح وغيرها والتي يعود أغلبها إلى ما قبل الاستقلال. فالملح التونسي مثلا مازال يسعر بالفرنك الفرنسي المزال من العملات الدولية منذ ظهور اليورو سنة 1999 وتعميمه في 2002.
وفي إطار جهود من قادتهم الصدفة إلى السلطة في تأجيل معجزة الشعب التونسي، لا يتوقف وزير التشغيل عـن تذكير التونسيين صارما بأن وزارته مصممة على تنفيذ القرار الحكومي القاضي بوقف الانتدابات في الوظيفة العمومية خلال سنة 2017 التزاما بحزمة إجراءات طلبها صندوق النقد الدولي.
من هنا وجدت حملة كشف حقيقة الثروات “أين البترول” لنفسها مبررا للوجود. فالدولة لم تتقدم في اتجاهات ضرورية كثيرة كان يجب أن تسلكها كمصارحة الشعب التونسي بطبيعة عقود استغلال الشركات الأجنبية للثروات الطبيعية. وتأخرت في تنفيذ وعودها التنموية في انتظار معجزات أجنبية كسيلان أموال مؤتمر 2020 الاستثماري.
كما لم تشتغل الدولة مثلما يجب على الأسس السليمة لبناء دولة قوية وشعب حر كريم ألا وهي أسس العمل والعلم من أجل إنتاج الثـروة وتوزيعها بعدل. فالشعب الثائر شتاء 2010-2011 كان شعاره الخبز والحرية والكرامة ولم يرفع شعار اقتسام الثروات النفطية إلا في يناير 2011 في الجنوب التونسي من قبل أتباع حزب حراك تونس الإرادة الذي أسسه الرئيس المؤقت السـابق منصف المـرزوقي بعيد إعلان هزيمته في الدور الثـاني من الانتخابات الـرئاسية في ديسمبر 2014.
وكان الحراك مدعوما في السرّ والعلن من قبل حليفته في الترويكا حركة النهضة لا سيما وأن موقعها الجديد إلى جانب حزب نداء تونس لم يستقر بعد.
وحدثت وقتها ملاسنات بين أنصار الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي والرئيس المؤقت السابق المرزوقي. وكان محركها ما بقي في النفوس من نتائج الحملة الانتخابية. ومن الأخطاء الكبيرة التي قد تؤذي تونس وتؤجل معجزتها هو استمرار حالة التعادي هذه مع تغيير في بعض المواقع.
فحركة النهضة تلعب على المكشوف في حضور الاحتجاجات المطلبية براياتها، ولكنها في الوقت نفسه تقود المفاوضات مع المعتصمين والمحتجين باسم الدولة محيية دورها في 2012 و2013 الذي يعرف التونسيون نتائجه.
أما الحراك فإنه سائر في غيّه بكثير من اللامسؤولية مدعوما بما يغذيه في أتباعه من عصبيات وقبليات والديماغوجيا، مخفورا بجلباب طويل يحميه ويؤويه ويضخ له ما يحتاج إليه وأكثر، ولكن المفاجأة أن حـركة النهضة كشفت أن جزءا من ألد أعداء الحراك صاروا له حلفاء وشركاء في المهمة الموكولة لحملة البترول. وليس ذلك طبعا عن محبة ولا عن تقاطع في المبادئ وإنما هو نوع من المساهمة في أي شيء ضد الحكومة التي كانوا معها ووقعوا اتفاق قرطاج الذي أنتجها.
ومع ذلك كله فالمعجزة التونسية ممكنة واليقين أنها ستكون على يد الشعب التونسي مرة أخرى لا عن طريق النخب السياسية.
———————————————————————————-
* كاتب وباحث سياسي تونسي.