تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس.. كيف يتحوّل المعارض إلى حاكم متناقض؟!
كشفت أزمة تفشّي كوفيد – 19 في تونس الكثير من التناقضات التي تعيشها الطبقة السياسية في البلاد بعدما فضح الوباء عجز جلّ الخيارات التي تم انتهاجها بعد عقد من ثورة جانفي 2011.
ومثّلت قضية “الكمامات” التي اتهم فيها نائب البرلمان جلال الزياتي بالاحتكار وبتضارب المصالح ما دفعه بعد ذلك إلى الإعلان عن قرار اتخذه مفاده أنه سيصدّر كل إنتاجه من الكمامات إلى أوروبا، فرصة هامة للوقوف عند تبدّل بعض مواقف السياسيين الذين تحوّلوا من المعارضة إلى الحكم.
وبعد كل ما أثارته هذه القضية من جدل في تونس إلى درجة أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد دخل على الخط في كلمة ألقاها بمناسبة انعقاد مجلس الأمن القومي، داعيا إلى معاقبة إلى كل من يتحيّل على التونسيين من خلال إنتاج كمامة ثمنها 300 مليم تونسي (0.1 دولار) ليبيعها في ما بعد بثلاثة أضعاف ثمنها الأصلي، تحوّلت بعض وجوه الحكم التي كانت في المعارضة إلى محلّ انتقادات واسعة.
قضية “الكمامات” مثّلت فرصة هامة للوقوف عند تبدّل بعض مواقف السياسيين الذين تحولوا من المعارضة إلى الحكم
وتساءل التونسيون في تعاطيهم مع هذه الأزمة المثيرة للجدل عن مواقف الكثير من الأحزاب والشخصيات الهامة التي قدّمت لهم في وقت ليس بالبعيد برامج انتخابية عنوانها الأبرز مقاومة الفساد.
وكان من بين أهم الشخصيات السياسية الوازنة التي نصبت لها محاكم في تقارير إعلامية أو على منصات التواصل الاجتماعي وزير الدولة المكلّف بالوظيفة العمومية ورئيس حزب التيار الديمقراطي محمد عبّو بصفته وزيرا معنيا قبل أي طرف بالقضية، وبصفته أيضا كان معارضا شرسا قبل تشكّل حكومة إلياس الفخفاخ لحكم حركة النهضة، ولمّا كان يسمّيها “المافيا” التي تدير الحكم في البلاد.
وزاد من حدّة هذا الجدل ظهور وزير الصناعة صالح بن يوسف الذي قال إنه لا يعلم أن رجل الأعمال صاحب المصنع المذكور هو نائب في مجلس نواب الشعب ما جعل الطبقة السياسية الحاكمة في مرمى الانتقادات الشعبية.
وبعد التأخر في تصدير موقف واضح، ظهر محمد عبّو في تصريحات إعلامية زادت في حدّة الجدل بدل إخفاته، حيث يرى الكثير من المتابعين أنه أهمل الأهم في القضية المطروحة، وأخذ يقدّم تبريرات غير مقبولة جاءت في جلّها مدافعة عن خيارات الحكومة الجديدة وعن كرسي الحكم.
وقال عبّو “في المطلق لا أحد في الحكومة سيُفلت من العقاب في صورة ثبت ارتكابه خطأ”، لكنه بحسب المراقبين أطنب في طرح ملفات سياسية أخرى غير مطروحة راهنا منها إسقاط الحكومة.
وقال رئيس حزب التيار لمن يريدون إسقاط الحكومة، “فليحاولوا بقدر ما يمتلكون من قوة، نحن سنبقى في الحكم إلى أطول وقت ممكن، سنُتم أربع سنوات أخرى في الحكم مهما فعلوا”.
وأضاف في علاقة بملف الكمامات “بالنسبة لي شخصيا وبالنسبة لرئيس الحكومة لن نترك أيّ أحد متهم بالفساد مهما كان اسمه، بحثنا الأمر مع هيئة مكافحة الفساد عن القضية، وأكدت أن التقرير سيصدر وسط الأسبوع المقبل، وسيعرض عليّ وعلى رئيس الحكومة”.
ويأتي تصريح عبّو بعدما أكدت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وجود شبهة فساد قالت إنها تتعلّق بصفقتيْ تصنيع 30 مليون كمامة واقية غير طبية ومليونيْ كمامة من الصنف ذاته لفائدة كل من وزارات الصناعة والصحة والتجارة، مبرزة أنها أحالت الملف بكل مؤيداته إلى وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس للتعهد والإذن بإجراء بحث تحقيقي في الموضوع.
وأسالت إطلالة عبّو الكثير من الحبر عن تبدّل مواقفه بعكس ما أظهره طيلة الخمس سنوات السابقة التي قضاها في المعارضة، حيث رأى الكثير من المنتقدين له أنه أخذ يسلك مسلك حركة النهضة التي كان ينتقدها عبر التحافه بعباءة الشرعية الانتخابية عند تبرير إجابته على أسئلة طرحها طيف واسع من التونسيين بشأن ما يسمّى بـ”أثرياء الوباء”.
ولا تعدّ قضية الكمامات وحدها مصدرا وحيدا لتساؤلات الشارع التونسي عن مدى التزام الطبقة السياسية التي اعتلت سدّة الحكم بعد انتخابات 2019، بل إن الكثير من الملفات الأخرى فرضت نفسها بقوة، خاصة بعد كل ما أثبتته للعيان أزمة كورونا من وجود فوارق جهوية كبرى، خاصة في ما يتعلّق بقطاع الصحة الذي يشكو أزمة متجذّرة خاصة في المناطق الداخلية.
وتوجّه الكثير من الانتقادات لحزبي التيار الديمقراطي وكذلك لحركة الشعب اللذين فضّلا الدخول في حكومة الفخفاخ إلى جانب حركة النهضة، خاصة أنهما كانا الطرفين الأكثر انتقادا لمنوال التنمية الاقتصادية الذي اتبعه الإسلاميين بعد ثورة جانفي 2011 بما في ذلك أيضا الفخفاخ الذي كان وزيرا للمالية في عهد حكومات الترويكا بين عاميْ 2011 و2013.
ظهر محمد عبّو في تصريحات إعلامية زادت في حدة الجدل بدل إخفاته، حيث يرى الكثير من المتابعين أنه أهمل الأهم في القضية المطروحة، وأخذ يقدّم تبريرات غير مقبولة
وبرز امتعاض المواطنين، من هذه السياسات المواصلة في تكريس نفس خيارات حكومات “الترويكا” بعد تقييم كيفية تعاطي الحكومة مع تفشي الوباء في محافظة قبلي (غرب جنوب البلاد) أين أطلق المتساكنون صيحات فزع لغياب مؤسسات الدولة، رغم التفشّي المتسارع لفايروس كورونا.
وظهرت تناقضات أخرى، في الطرف الآخر بعدما أبدى الأمين العام لحزب تحيا تونس الذي يقوده رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد استغرابه من منوال التنمية المتبع بقوله حرفيا “حان الوقت لتغيير المنوال الاقتصادي في تونس”، والحال أنّه كان في السّلطة لمدّة خمس سنوات قبل انتخابات 2019.
وباتت مثل هذه التقلّبات لا تشجّع التونسيين على الاهتمام بالفعل السياسي بقدر ما تجعل مواقفهم من الساسة محسومة ومبنية على عدم تصديق ما يقولون، خاصّة أنّ نماذج التناقضات المقدّمة حاليا في زمن الوباء، لا تعدّ الأولى في الساحة السياسية التونسية حيث سبق للكثير من السياسيين أن وعدوا الناخبين بعد الثورة بعدم الحكم مع حركة النهضة الإسلامية لكنّهم عندما تحوّلوا إلى ممارسة الحكم أصبحوا أكثر دفاعا عن خياراتها وأكثر استماتة حتى من قياداتها.
_____________________________________________________________
* وسام حمدي | صحافي تونسي.