تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس وإيطاليا: حراسة الحدود مقابل المال | المهدي مبروك
عادت، السبت 10 جوان الجاري، رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، في أقلّ من أسبوع، إلى تونس، في زيارة هذه المرّة ترافقها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيس وزراء هولندا مارك لوتيه. وكانت قد انتقلت بعد زياراتها السابقة مباشرة إلى ليبيا، أين التقت رئيس الحكومة الليبي عبد الحميد الدبيبة. وتأتي الزيارات الماراثونية التي تؤدّيها ميلوني إلى المنطقة، وتونس تحديدا، في سياق إقليمي يتسم بارتفاع موجات الهجرة غير النظامية في الأشهر الأخيرة إلى السواحل الجنوبية لأوروبا، وخصوصا إيطاليا. تفيد معظم تقارير المنظمة الدولية للهجرة أو منظمة فرانتكاس أو وزارة الداخلية الإيطالية بأن منطقتي عبور المهاجرين ونقطتي انطلاقهم هما تونس وليبيا، غير أن الضغوط كلها تُوجّه إلى تونس لاعتبارات عديدة، لعل أهمها الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به البلاد في ظل ارتفاع ديون البلاد وعجزها عن إيجاد التمويلات اللازمة، في ظل المفاوضات الصعبة التي تتعثّر منذ أكثر من سنتين مع صندوق النقد الدولي.
عبّرت إيطاليا منذ صعود ميلوني عن إعجابها بالتجربة التونسية، تحديدا منذ انقلاب 25 جويلية (2021)، ولم تتردّد في الدفاع عن هذا المسار، بل نصّبت نفسها محامية للدفاع عن مصالح تونس في الخارج. وتدلّ التصريحات المتعددة لميلوني عن الوضع التونسي والزيارات المكثفة بين مسؤولي البلدين، وتحديدا وزراء الخارجية والداخلية، على حجم التنسيق وتطابق المصالح بين البلدين.
كانت إيطاليا أول من استعمل مفردة الانهيار التونسي لدقّ أجراس الخطر عن مخاطر الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجه البلاد وآثارها الإقليمية الوخيمة المحتملة خصوصا في ما يتعلق بالهجرة. ألمحت ميلوني إلى إمكانية “زحف” مئات آلاف المهاجرين القادمين من تونس وبلدان أفريقية عديدة، لو انهارت السلطة في تونس نتيجة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها تونس. واشتبكت ميلوني مع نظراء لها من بلدان الاتحاد الأوروبي تتهمهم بأنهم خذلوا بلدها وتركوه يخوض بمفرده ما تسميها “مكافحة الهجرة غير الشرعية”. وقد تسرّبت هذه الملاسنات إلى العلن وتناقلتها وسائل الإعلام. ويعد خروج ميلوني عن واجب التحفظ إحدى وسائل التعبئة السياسية والشعبية التي تحصدها حاليا، وسط انحراف رأي عام إيطالي تجاه الخطاب الشعبوي اليميني العازف على وتيرةٍ قوميةٍ متشنّجة تنتعش بإضافة كراهية الأجانب عموما، المهاجرين خصوصا، ضمن هذه السردية.
ظلت إيطاليا البلد الوحيد من داخل الاتحاد الأوروبي الذي ساند ضمنيا تصريحات الرئيس قيس سعيّد في أواخر شهر فيفري الماضي، حين اعتبر هجرة أفارقة جنوب الصحراء جزءا من مؤامرة تريد تغيير هوية تونس وإحداث اختلال في تركيبتها الديمغرافية. وينسجم هذا الخطاب تماما مع خطاب ميلوني في حملتها الانتخابية، ما جعلها تصعد إلى دفّة رئاسة الحكومة. لم تُخف في مختلف تصريحاتها أن وجهات نظر البلدين تتطابق في مسائل عديدة، لعل أهمها الهجرة. كما أنها لم تُخف، في اجتماعات الاتحاد الأوروبي، أنها لا تدافع عن مصالح تونس في جل مواقفها، بل عن مصالح بلدها، فتونس ستظلّ مجرّد بلد عبور، ما دام الجزء الأعظم من هؤلاء سيستقر في بلادها.
أبدت تونس، في الأشهر القليلة الماضية، التزاما كبيرا بما تسميه مكافحة الهجرة غير النظامية أيضا، فحصلت نتيجة هذه الجدية التي أبدتها على مساعدات لوجستية، من شأنها رفع كفاءة المراقبة البحرية التي تقوم بها السلطات التونسية. وها هي تقدّم دليلا ساطعا على الالتزام بما وعدت به، فجميع الإحصائيات التي نشرتها السلطات الإيطالية، وحتى التونسية، تثبت أن أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية هبط بشكل غير مسبوق لأول مرة خلال شهر ماي. وتدفع هذه الجدّية المثالية التي تُبديها حاليا تونس في مكافحة ظاهرة الهجرة كما تقول، أكثر من أي وقت مضى، السلطات الإيطالية إلى الدفاع عن تونس، وحث الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على مساعدتها على تجاوز محنتها الاقتصادية، حتى لا تتحمّل إيطاليا وأوروبا عموما وزر هذه المآلات.
تدرك تونس، في خضم هذه المناخات، أنها تُمسك بورقة تفاوض ثمينة، وهي التحكّم في موجات الهجرة التي تتحوّل إلى فوبيا ترعب الجميع، وأولهم الأوروبيون، وهي تطلب مقابلا سيكون من المحال الحصول عليه، لو فرّطت في هذه الورقة، خصوصا أن الرئيس يكرّر، المرّة تلو الأخرى، أنه لن يخضع لإملاءات صندوق النقد الدولي الذي شبّهه بالطبيب المريض الذي يقدّم وصفات قاتلة لمرضاه. ورغم كل هذا العناد، أدركت السلطات التونسية أنها تُمسك، كما ذكرنا، بورقة تفاوض قد تبدو الأخيرة والوحيدة المتاحة لديها حاليا. وحسب تسريبات المفوضية الأوروبية ذاتها، أجازت التعديلات التي توافق الأعضاء قبل أيام على إدراجها في اتفاق دبلن (1990)، لأول مرة، أن يرحّلوا هؤلاء المهاجرين إلى دول العبور عوض بلدانهم الأصلية. وإذا صحت هذه المعلومات التي أكدها أكثر من مصدر، فستلعب تونس هذا الدور، وتقبل أن تكون حارس الحدود الأوروبية ومنصّة إعادة ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم مقابل تمويلات صندوق النقد الدولي.