تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس والتجريب السياسي في الساحة الأفريقية. |بقلم: مصطفى القلعي*.
بدأت تظهر إشارات سياسية ودبلوماسية تونسية مفادها أنّ هناك توجّها تونسيا نحو تدارك التجريب السياسي نحو أفريقيا، والذي يدلّ على خيار سياسي تتخذه حكومة يوسف الشاهد بحثا عن منافذ للتخلّص من عبء الأزمة الاقتصادية في تونس المتضخمة باستمرار، لا سيما أمام عودة وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات إلى الارتفاع من جديد في جهات متعدّدة من الكاف وجندوبة وسليانة في الشمال الغربي والشمال، إلى قفصة وتطاوين في الجنوب الغربي وأقصى الجنوب بسبب غياب التنمية وعجز الحكومة عن الإيفاء بتعهداتها في التمييز الإيجابي وتوفير ما يلزم من الاعتمادات والاستثمارات للنهوض بالجهات التونسية المفقّرة والمحرومة.
من هذه العلامات على التوجه التونسي نحو أفريقيا زيارتا رئيس الحكومة يوسف الشاهد أواخر شهر مارس إلى السودان، ثم بعدها بأيام مطلع أفريل إلى دولة النيجر والإعلان عن فتح خطوط جوية مباشرة بين تونس وكلّ من السودان وموزمبيق، إضـافة إلى الخط الذي افتتح منذ سنة بين تونس ونيامي. وقد سبق لرئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد أن زار كـوت ديفوار على رأس وفد كبير في نفس هذه الفترة من السنة الماضية.
طبعا ليست العلاقات التونسية الأفريقية ابتكارا دبلوماسيا جديدا وإنما الروابط بين تونـس وأفريقيا ضاربة بجذورها في التاريخ. فتونس كانت تسمّى أفريقية ومنحت اسمها للقارة كاملة تماما كما كانت تسمى عند الرومان “مطمورة روما” كناية عن كونها كانت غنية بإنتاج الحبوب وكانت خيراتها تجوب الأسواق الرومانية والأفريقية وتصل إلى المستهلكين في كل مكان.
تمثّل أفريقيا وجهة اقتصادية لأكبر الاقتصاديات العالمية باعتبارها سوقا واعدة يؤمّها ما يقرب من المليار بشر. وتعرف البعض من الاقتصاديات الأفريقية نموا سريعا، ويقدر البنك الدولي أن أفريقيا ستكون من بين أسرع ثلاث مناطق نموا في العالم نظرا للاستثمارات الضخمة التي تمّ ضخها في الزراعة والبنية التحتية.
شعرت تونس بتقصير كبير تجاه أفريقيا وأحست بأنها تهدر فرصا كبيرة للتنمية التجارية والاقتصادية يمكن أن تعود عليها بفوائد كثيرة. فلا يمكن تفسير الغياب الفادح لتونس اقتصاديا على المستوى الأفريقي، مقابل الاستمرار في المراهنة التامّة على التعامل مع السوق الأوروبية والخضوع لشروطها وتلقي خسارات وضربات كبيرة نتيجة الركود الاقتصادي الأوروبي وترهّل السوق الأوروبية.
من علامات الغياب الكبرى لتونس عن الساحـة الاقتصادية الأفـريقية أنه لا يوجد أيّ بنك تونسي ينشط في أفريقيا ولا وجود لأيّ فرع بنكي تونسي في أفريقيا. كما لا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين تونس وأفريقيـا 2 بالمئـة من حجم المبادلات التجارية التونسية. ولا يتجاوز حجم المعاملات التونسية الأفريقية 700 مليون دولار.
كما لا يمثّل عدد التونسيين المتواجدين في أفريقيا سوى 0.2 بالمئة من جملة التونسيين الذين يعيشون في الخارج. بينما يتزايد عدد الأفارقة الذين يقصدون تونس لا سيما من الطلبة أو من المرضى الباحثين عن العلاج في المصحات التونسية. ولكن تبقى هذه الحركة فاقدة لأيّ دعم رسمي، إذ لا توجد تسهيلات ديوانية ولا إعفاءات جمركية ولا غيرها من المبادرات الميسّرة للتنقل والإقامة بين تونس ومختلف البلدان الأفريقية.
هناك منتجات متعدّدة تحتاج إليها أفريقيا موجودة في تونس مثل الفلاحة البيولوجية لا سيما زيت الزيتون والتمور والنباتات الطبّية والأدوية، إضافة إلى الخدمات في التعليم العالي والصحّة والاتصالات والمياه المعدنية والألبان واللحوم البيضاء والمنتجات الفلاحية والأشغال الكبرى وشركات البناء والمقاولات. وتعدّ جميعها مجالات مغرية للتبادل والاستثمار، إضافة إلى كون أفريقيا التي تقع تونس على رأسها قادرة على أن تكون الخزان الخام الذي يمكن أن يمتص اليد العاملة المختصة التونسية والفيض الكبير في أصحاب الشهائد العليا الذين لم يجدوا فرص عمل في تونس.
ولكن ليس العاملان التجاري والاقتصادي همـا الوحيـدان الكـافيان لتـدعيم توجه تونس نحو أفريقيا بل هناك العوامل الأمنيـة والإستراتيجية. وهو ما يبرر خيار التوجه نحو السودان والنيجر قبل غيـرهما من الـدول الأفريقية. فهما دولتان تقعان على الحدود مع ليبيا التي تشكل الهاجس الأكبر لتونس على كل المستويات.
ولئن تأخرت تونس في التحـرك في اتجـاه الحوض الحدودي الليبي بما مثل ثغرات استعـلاماتية واستخبـاراتية كبرى في التوقّي من الخطر الإرهابي، فإنّ التحركين السياسي والدبلوماسي الأخيرين للحكومة التونسية يأتيان في الوقت الذي بدأت فيه العلاقات التونسية المصرية، والتونسية الجزائرية تتخذ اتجاه النضج اللازم لتضافر الجهود لحلّ الأزمة الليبية والتقليص من مخاطرها لا سيما في الجانب الأمني.
ولئن يعتبر تدعيم العلاقات بين تونس وكلّ من السودان والنيجر مهمّا ويعد بفتح إمكانيات للاستثمار، فإن كثيرا من المحلّلين ينبّهون إلى أن فتح خطوط جوية مباشرة بين تونس والخرطوم وتونس ونيامي قد يستعمل لتسرّب إرهابيين إلى تونس. ولم تعلن تونس عن أيّ احتياطات خاصّة في هذا الجانب.
كما يمكن أن تعتبر تحركات رئيس الحكومة التونسية نحو السودان والنيجر مساهمة منه في المبادرة الرئاسية التونسية لحلّ الأزمـة في ليبيا التي أعلن عنها في شهر جانفي الماضي، وتضمّ كلّا من مصر والجزائر وينقصها الدعم اللّيبي اللّازم. ولو تقدّمنا في هـذا التحليل فإنّنا نتوقّع أن تكون الزيارة القادمة لرئيس الحكومة التونسية إلى تشاد.
وتتمثّل الفكرة التي بنـت عليهـا السلطـات التونسية إستراتيجياتها الدبلوماسية والسيـاسية هي محـاولة بنـاء سياسة مقاومة الإرهاب على الجانب الاقتصادي. فتنمية المبادلات بين تونس والحوض الحدودي اللّيبي تعزّز التواجد البشري الرسمي والشعبي في هذه البلدان، وتقلّص من فرص اختباء الإرهابيين والفارّين من العدالة والعناصر المتشدّدة في هذه البلدان وتساهم في إبعاد الخطر عن تونس.
قد تكون هذه السياسة مفيدة لو توفرت لها شروط النجاح اللّازمة ولو ثبتت النوايا وعزمت على الذهاب في هذه الخيارات إلى منتهاها. والرجاء كلّه ألّا تكون هذه التوجهات السياسية مجرّد نفحات ولفحات وأحلام ليلة صيف.