تحاليل _ تحاليل نفسية _ حجب الحقائق مصدر أساسي للإجهاد والتوتّر والاكتئاب.
لا يحب الناس الكذب، أو هكذا يقولون، لكنهم يمارسونه باستمرار مع الآخرين، ومع أنفسهم. فمنذ طفولتنا ونحن نكذب، فمثلا إذا ما سألت طفلا بجواره طبق مكسور، هل أنت الذي كسرت هذا الطبق؟ سيجيب الطفل وملامح البراءة ترتسم على وجهه.. “لا”، هكذا يكذب الأطفال على الكبار، وكذلك يتهرب الكبار من أسئلة الصغار، ويُجمّل المخطوبون الحقيقة قبل الزواج، والمرؤوس ينافق المدير، والمدير يعد المرؤوس، وتقوم الدول أيضا بالكذب على شعوبها، فالكذب تصرف إنساني يقوم به الإنسان منذ نعومة أظافرة ليتهرب من مواجهة الحقيقة، الحقيقة التي غالبا ما تكون صادمة و مؤلمة.
ومن جانبه يؤكد عالم النفس بوريس سيرولنك، أن أي كشف للحقائق بشكل مباشر قد تكون له عواقب مدمرة ما لم تكن الأمور مدروسة بشكل جيد، وهناك الكثير من القصص مثال على ذلك في تاريخ العائلات التي يحدث فيها إخفاء نسب الطفل إلى أن يكبر، فقد تترمل الزوجة وهي حامل وتتزوج بآخر، ولا تخبر طفلها أن الأخير ليس والده حفاظا على مشاعره إلى أن يكبر.
وهناك قصص أخرى نسمعها غالبا في حالات التبني، وقد يصبح السر الذي حجب لحماية الطفل خطيرا، وله تداعيات سلبية، فيخسر الأهل الابن الذي عرفوه وعرفهم، بينما يشعر الابن بأنه تعرض للخيانة، وأن إحساسه بهويته أصبح مفقودا، وينتابه شعور بالخسارة والحزن، وربما يؤدي به ذلك إلى مرض نفسي.
كيف لنا إذن، أن نوفق بين الرغبة في أن نكون صادقين وبين عدم إلحاق الأذى والضرر بالآخرين؟ يفضل البعض انتظار الوقت المناسب للحديث عن الحقيقة، فالتوقيت في مثل هذه الحالات مهم جدا، ويجب أن نفكر بوعي قبل أن نقرر متى يمكننا إخبار أحدهم بسر ما، فبالتأكيد التحدث إلى طفل في سن السادسة لا يتم بنفس الطريقة التي نتحدث بها إلى مراهق.
وأوضح علماء اجتماع أنه عادة ما يكون من الصعب إخبار الأطفال عن أمور قد تكون مؤلمة بالنسبة إليهم، مثل طلاق الوالدين، أو أن الجدة مريضة وعلى فراش الموت، أو أن الأهل يمرون بضائقة مالية، ولكن من المهم جدا التغلب على هذه الصعوبة والقلق الذي يرافقها، عن طريق الإجابة عن أسئلة الأطفال بهدوء وصراحة وذكاء، وبذلك نقدم لهم الاحترام، لأن مشاركتهم بالأحداث وما يجري هي أمر مهم جدا بالنسبة إليهم وإلى نظرتهم لأنفسهم في الوقت الحالي ولاحقا، كما أننا عندما نتحدث إلى أطفالنا، فنحن نساعدهم بذلك على تطوير قدرتهم في التواصل وطلب المساعدة عند الحاجة مستقبلا.
كما أشاروا إلى أنه إذا أراد أحد الوالدين إخبار الأطفال عن الانفصال في البداية يجب طمأنتهم بأنهم محبوبون، وأن ذلك لن يؤثّر على استقرار حياتهم اليومية، والتأكيد أن كلا من الوالدين صديق للآخر، وبالطبع عندما يعلم الأطفال أن والديهم لم يعد يحب أحدهما الآخر، لن يكونوا سعداء بمثل هذا الخبر، ولكن الرسالة سوف تصلهم، أنهما لم يعودا قادرين على الاستمرار معا، وأكثر ما يقلق الأطفال بشأنه يتعلق بتنظيم حياتهم اليومية، لذلك يجب طمأنتهم بشأن مجمل الأمور، مثل الاستمرار في المدرسة نفسها والبقاء مع الأم، ورؤية الأب في أيام العطل أو العكس.
نحن نكره أن يكذب أحدهم علينا، أو هكذا نظن، ولكن علاقتنا مع الحقيقة أكثر تعقيدا مما نعتقد. يفسر عالم النفس روبرفت فيلدمان ظاهرة الكذب بقوله “لا يوجد شخص صريح مع الآخر بشكل مطلق، ونحن نتعامل مع الأكاذيب ونسمعها بشكل يومي، من دون أن نلاحظ معظمها أو حتى النظر إليها على أنها أكاذيب، ولكن التحدي الأكبر أمامنا هو كيف نتعامل مع الخداع”.
إن قدرا كبيرا من خداع الناس ينطوي على حسن نية، ويراد منه مراعاة مشاعر الآخرين وحمايتها، وعندما يكذبون علينا، يكتشفون أننا نريدهم أن يكذبوا علينا بالفعل، وقد نكون في الكثير من الأحيان متواطئين مع أكاذيب الآخرين. فإذا صدقنا أن الكذب الأبيض غير مؤذ وأن عواقبه حميدة.. ألا نكون بذلك متواطئين مع الكذب؟
يؤكد خبراء في علم النفس أنه من الأفضل أن نكون صادقين مع أنفسنا قدر الإمكان، وأننا إذا سمحنا للآخرين بمجاملتنا وتعظيم أعمالنا، فلن نمضي قدما أبدا ولن نتطور، فحتى الأكاذيب الصغيرة البيضاء تجعلنا متورطين في علاقة غير صادقة، وحتى لو قلت شيئا يجب على الطرف الآخر أن يسمعه، فهذا يجعله غير أهل للتعامل الصادق.
وتشير أبحاث حديثة إلى أن الكذب الأبيض له آثاره، حتى لو أخذ الحديث في ما بعد منحى أكثر صدقا، وعلى المدى الطويل إذا بنيت إحدى العلاقات على الكذب، فإن ذلك سوف يشكل ضغطا على هذه العلاقة بشكل أو بآخر.
وعن موضوع الصدق، ألف المحلل النفسى العالمي دبراد بلانتون كتابة “حركة الصدق الراديكالية” وأقر بأن الصدق مسؤولية خطيرة وكبيرة، ويرى أن الصدق الخالص يعني أن نكون صادقين وصريحين من دون أن نكون قاسين أو جارحين، فجزء كبير من المشكلة هو أننا نفتقر إلى الكلمات المناسبة لإخبار الآخرين عن أشياء لا يرغبون في سماعها عن أنفسهم، فالكذب الاجتماعي غالبا ما يكون قولا أو حجبا لمعلومات من أجل التلاعب برأي أحدهم، فينصب اهتمام الطرف الآخر على الأكاذيب التي تقال والأسرار التي تخبأ، وهذا ما يخلق التوتر بين الطرفين، فحجب الحقائق مصدر أساسي للإجهاد والتوتر والقلق والاكتئاب.
وينصح بلانتون بعدم الكذب فقط من أجل عدم إيذاء مشاعر الآخرين، بل قول الصدق ومساعدتهم على تجاوز الجرح.
فالصدق المتبادل يخلق ألفة ليس من الممكن أن يخلقها الكذب، إذ يمكن للمرء أن يحرص على مشاعر الآخرين وأن يتجنب غضبهم فترة طويلة، إلى أن يحدث ما يفجر الحقيقة في دقائق، وعندها تكون النتيجة مؤلمة جدا ومؤذية للطرفين، في حين إذا ما أخبرت الآخرين بالحقيقة فسيصاحبك الشعور بالراحة والثقة، وهذا أفضل بكثير ممن يكذب ويختبئ ويرتعد من أن تكشف حقيقته.
وبيّن مختصون، أنه بمجرّد أن تغادر الكذبة الشفتين، يبدأ الجسم بإفراز مادة الكورتيزول في الدماغ، وبعد عدة دقائق تبدأ الذاكرة في مضاعفة نشاطها، لتتذكّر الحقيقة وتفرق بينها وبين الكذبة، ويصبح اتخاذ القرارات أصعب، وقد يعبر الإنسان عن عدم راحته بنوبات من الغضب، خلال أول عشر دقائق فقط!
ويبدأ الفرد الذي أطلق الكذبة بعد هذه الأعراض الأولية بالشعور بالقلق حيال كذبه، أو القلق بشأن كشف كذبته، وقد يحاول أن يعوّض عن كذبته فيلجأ إلى معاملة من كذب عليهم بلطف زائد، أو قد يظهر هذا الشخص الكاذب ردّة فعل معاكسة، ويحاول إقناع نفسه بأن الخطأ من الآخرين وهم الذين أجبروه على الكذب.
وأظهر المختصون أنه في اليوم التالي للكذبة، قد يحدث أمران، إما أن يكون الشخص معتادا على الكذب فيبدأ بتصديق كذبته، وإما أنه سيشعر بالإساءة إلى الغير إن لم يكن معتادا على الكذب، وقد يحاول تجنب الالتقاء بالأشخاص الذين كذب عليهم، وهذه المشاعر قد تؤدي إلى اضطرابات في النوم والأرق لعدّة أيام لاحقة.
—————————————————————————————————————
* أحمد مروان.