تحاليل – تحاليل سياسية _ رهانات اللّامركزية والديمقراطية المحلية في تونس. |بقلم: مصطفى القلعي*.
من الخيارات الكبرى التي توافقت عليها القوى السياسية في تونس وهي تعد دستور 2014 خيار اللامركزية، وهو يعني أن تتخلى الدولة عن خيار الحكم المركزي العمودي، إلى الحكم اللامركزي الأفقي الذي يمنح المحليات والجهات حق التسيير الذاتي.
ولكن الدستور رَهَن اللامركزية بضمان وحدة الدولة وتماسكها. وهنا يأتي الحديث عن اللامحورية وهو يعني تشبيك العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات المحلية وتقنينها لا سيما في مستوى الجباية وتوزيع الثروة والتنمية، بينما تبقى المسألة الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والمالية بين يدي الدولة المركزية، موزعة بين سلطتي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
وبعد جدل وانتظار طويلين وتعطيلات من هنا وهناك، وإثر ثلاث سنوات على كتابة الدستور الجديد في تونس، وبعد أزيد من سنتين على الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أفرزت التحالفات القائمة اليوم في الحكم، صادق مجلس نواب الشعب في تونس على القانون الانتخابي الذي سينظم الانتخابات البلدية التي تهم 350 بلدية، والانتخابات الجهوية في 24 محافظة تونسية.
المصادقة على هذا القانون تعني وضع الخطوة الأولى على طريق اللامركزية، أو ما يصطلح على تسميته بالديمقراطية المحلية التي سينتخب فيها المواطن من يراه مناسبا لتسيير الشأن المحلي القريب منه في مستوياته المعيشية. كما سيتيح له قانون الجماعات المحلية الذي لم تتم المصادقة عليه بعد مراقبة هذه السلطة المحلية ومساءلتها ومحاسبتها بشكل مباشر.
لقد كانت في القانون جملة من النقاط الخلافية التي مطّطت عملية التصويت عليه، أهمها منح الحق في التصويت للأمنيين والعسكريين، ومشاركة الشباب والمرأة والمعاقين في القوائم الانتخابية. وقد تمّ التصويت لفائدة حقّ الأمنيين والعسكريين في الاقتراع. وهو أمر يحدث لأول مرة في تاريخ تونس، وقد كان محلّ تجاذب كبير بين الأحزاب السياسية والنخب الإعلامية والمدنية بين قائل بضرورة تحييد المؤسسة الأمنية والعسكرية وإبعادها عن دائرة المنافسة السياسية والانتخابية، وبين من يرى أنّ المنتمين إلى هاتين المؤسستين مواطنون تونسيون بل هم حماة الوطن والمدافعون عن حدوده والضامنون لأمنه واستقراره فهم أولى بالإدلاء بأصواتهم لتدعيم استقراره السياسي. فلا فرق بين سلك الأمنيين والعسكريين وسلك القضاة باعتبار أنّهما مطالبان بالحياد والاستقلالية ضمانا للعدل والأمن خدمة لمبادئ الجمهورية. فلا شيء يمنع تمتّع الأمنيين والعسكريين بما يتمتّع به القضاة من حقّ في التصويت كغيرهم من المواطنين دون أن يلغي ذلك استمرارهم في أداء المهام القضائية والرقابية على كلّ السّلط.
لكنّ القانون الانتخابي الذي منح حقّ الاقتراع للأمنيين والعسكريين، منعهم من الترشّح للانتخابات سواء ضمن القوائم الحزبية أو المستقلّة، ومن المشاركة بأيّ صورة في الحملات الانتخابية. ووضع لذلك عقوبات زجرية صارمة مما رأى المراقبون أنّه قد ينفّرهم من التصويت خوفا من الشبهات التي قد تصل بهم إلى الطرد من العمل. وهو ما قد يجعل فصل تصويت الأمنيين والعسكريين بلا معنى، أي أنّه يعني أن يُأخذ بالزجر ما مُنح بالقانون الانتخابي.
ومن النقاط الخلافية التي كانت قائمة في القانون الانتخابي للانتخابات البلدية والجهوية هي تكوّن القائمة المترشحة في مستوى التناصف بين الرجال والنساء ومشاركة الشباب وأصحاب الاحتياجات الخصوصية فيها والتصويت لفائدة تمكين الأمنيين والعسكريين من حقّ الانتخاب.
خلافا للقانون الانتخابي لتشريعية 2014 الذي كان ينصّ فقط على التناصف الأفقي بين الرجال والنساء، أقرّ قانون الانتخابات البلدية والجهوية لسنة 2017 التناصف الأفقي والعمودي في القوائم الانتخابية، بمعنى أن تتشكل كل قائمة ضرورة من رجل فامرأة، هذا على مستوى التناصف العمودي، ومن رجل مرّة وامرأة مرّة أخرى في رئاسة القوائم بالتراوح والتوازي بين القائمات المترشحة باسم كل حزب أو تكتل انتخابي، في مستوى التناصف الأفقي.
يعني بعبارة أخرى أن يكون عدد المترشحين ضمن القوائم الانتخابية منقسما بالتساوي بين الرجال والنساء، من جهة، ولكن حتى لا تكون ترشحات النساء للزينة فرض القانون الانتخابي التناصف الأفقي أي أن تكون رئاسة القوائم بالتراوح بين النساء والرجال. فالحزب الذي يقدم خمسين قائمة مترشّحة في خمسين دائرة انتخابية عليه أن يقدّم خمسا وعشرين قائمة تترأسها سيّدات ومثلها يترأسها رجال.
فصل التناصف الأفقي وإن كان المجتمع المدني والرأي العام في تونس يعتبره مكسبا كبيرا للمرأة التونسية في طريق التحرّر النهائي وتحقيق المجتمع المتوازن، فإنّه سيشكل صعوبة أمام الأحزاب الصغيرة والقائمات المستقلة، وهو ما قد ينمّي من غلبة الحزبين الكبيرين على المشهد، ويقضي على احتمالات التعدّد والتنوّع اللذين يعدان ضامني الاستقرار في تونس إلى حدّ الآن.
وإذا أضفنا إلى ذلك الفصل القاضي بالتمويل البعدي للقوائم المترشحة من الأحزاب والمستقلين ومجانية العمل البلدي والجهوي، فإنّه من واجبنا التنبيه إلى خطورة انحسار الانتخابات البلدية والجهوية، وربّما حتى العزوف عنها وبالتالي فشلها وفشل مشروع اللامركزية والديمقراطية المحلية التي يحلم بها التونسيون وتناضل قواه الحيّة من أجلها.
صحيح أن لفصل التمويل البعدي مبرّراته إذ عجزت الدولة إلى حدّ الآن عن تطبيق القانون واسترجاع الأموال من الأحزاب والقوائم المستقلة التي فشلت في الانتخابات الماضية، ولكن يبقى التمويل العمومي هو الواقي الوحيد من المال السياسي الفاسد والضامن الوحيد للشفافية والتعددية وللأحزاب الصغيرة وحتى للأحزاب الكبيرة، ولكن مصادر تمويلها ضعيفة بالمشاركة في الانتخابات وممارسة حقوقها وواجباتها الدستورية والسياسية. وللتذكير فإن حركة النهضة كشفت منذ أيام عن ميزانية ضخمة من الأموال السائلة، من دون احتساب العقارات التابعة لها والممتلكات من وسائل إعلامية وأسهم في بنوك وشركات لم يقع الإعلان عنها.
كما أن مجانية العمل البلدي والجهوي غير مطمئنة للرأي العام وللمترشحين والمقترعين على السواء، إذ أنّ الهيكل المنتخب ضمن مجلس بلدي أو جهوي سيمنح من جهده ووقته وماله الخاصّ ما به يخدم المواطنين ويعرض نفسه للمساءلة والمحاسبة مجانا. وهذا ما قد يفتح الباب واسعا للفساد والرشوة أو يغري بهما على الأقل فتتعطّل الديمقراطية المحلية.
قانون الانتخابات المحلية المصادق عليه مؤخّرا في مجلس نواب الشعب ينظّم عملية الانتخابات من الناحية التقنية، ولكنّه لم يحسم طريقة إجراء هذه الانتخابات. فهل سيكون الشروع بالانتخابات البلدية التي ستفرز المجالس البلدية، أم بالانتخابات الجهوية التي ستتولد عنها المجالس الجهوية أم العكس؟ أم سيكون الانتخاب متزامنا بين الانتخابين في وقت واحد؟
وهذا الخلاف عرفه التونسيون أثناء انتخابات 2014 بين التشريعية والرئاسية. والموضوع في حاجة إلى توافق سياسي كما كان الشأن في انتخابات 2014 حول طبيعة الانتخابات وموعدها الذي لم يحدّد بعد إن كانت ستجرى في ما بقي من سنة 2017 أو في سنة 2018، وهذا يعود أيضا إلى مدى استعداد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لا سيما في المستويين اللوجستي والتقني، ومستوى الموارد البشرية اللازمة لحدث بضخامة الانتخابات البلدية والجهوية.
والذي ينقص الآن لإجراء الانتخابات البلدية والجهوية والشروع في تجسيد مقرّرات الدستور من الحكم اللامركزي والديمقراطية المحلية أمران؛ القضاء الإداري الذي سيراقب السلطة المحلية، وقانون الجماعات المحلية الذي سينظم مجال عمل السلطة المحلية وسلطاتها.
بالنسبة إلى القضاء الإداري فإنه لم يتم تركيزه في الجهات إلى حدّ الآن كما نصّ على ذلك الدستور. وقد تم التوافق على إيكال مهمّة مراقبة السلطة المحلية إلى المحاكم الابتدائية إلى حين الانتهاء من تعميم المحاكم الإدارية في مختلف الجهات. بينما قانون الجماعات المحلية الذي سيضبط الحدود بين اللامركزية واللامحورية وسيقنن سلطة المركز في الجهات وعلاقة ممثّل الدولة المعيّن في الجهات بالسلط المحلية والجهوية المنتخبة، فإنه مازال بعيدا عن الحسم ومازالت تشقّه خلافات كبيرة.
——————————————————————————————————————————————–
* كاتب ومحلّل سياسي من تونس.