تحاليل _ تحاليل نفسية _ صُنِع في الصّين، ثمّ ماذا؟!
في الأيام الأولى من إقامتي في لندن وأثناء تجوالي مع زوجي في أحد الشوارع التجارية بمدينة ريتشموند (الجنوب الغربي من مركز مدينة لندن) أعجبني حذاء معروض في واجهة مغازة لأرقى الماركات العالمية، فطلبت من زوجي اقتناءه.
دخلنا المحل، جربت الحذاء، فأغراني ملمسه وشكله ولونه والأكثر من ذلك إسم المحل العريق، تحمست لشرائه من دون حتى أن أطلع على ما هو مدون على العلبة، فدفع زوجي ثمنه، وعندما عدنا إلى المنزل ارتديته من جديد، ودفعني فضولي وقتها إلى قراءة ما كتب على العلبة، فاكتشفت أنه مصنوع في الصين، ناديت زوجي بأعلى صوتي “هذا الحذاء مصنوع في الصين فكيف ندفع فيه كل تلك الأموال!”، ضحك زوجي بتهكم، وذكرني بدعابة نرددها في تونس تقول إن امرأة تونسية تزوجت من رجل صيني فأنجبت منه طفلا، إلا أن الطفل توفي بعد أسبوع من ولادته، فبكته أمه بحرقة كبيرة، عندها حاولت والدتها مواساتها قائلة “لا تحزني يا ابنتي هذا حال الأشياء الصينية لا تدوم أكثر من أسبوع!”.
قال زوجي إن هذا المحل يزخر بأنواع مختلفة ومتنوعة من السلع والبضائع، معظمها مصنوع في الصين، وأن الإنكليز يدركون أنهم زبائن للصناعة الصينية، من الملابس حتى السيارات وأجهزة الكمبيوتر.
أعرف تماما أن الصينيين قد تفوقوا اليوم على صناع الموضة في عقر دارهم، من خلال إنشاء شركاتهم الخاصة في كل بقاع العالم، فضلا عن الريادة العالمية لهم في مجال المنسوجات والجلود ذات الجودة العالية.
لكن مع ذلك، معرفتي بأن الحذاء صنع في الصين بددت فرحتي به، ورغم ثمنه الباهظ وشهرة المحل التي شدتني إليه أول مرة، ركنته في الخزانة، وكلما ذكرني زوجي به وطلب مني ارتداءه، تدب إلى أنفي نفس الرائحة النفاذة للأحذية الصينية المعروضة على الأرصفة بتونس، فيراودني إحساس بالنفور.
الدماغ يحكم إن كانت الأشياء جيدة أو سيئة، قياسا على المواقف الأخرى التي رآها وسمعها المرء في حياته، بدلا من أن يقارنها مع ما هو ماثل أمامه بشكل عام
لم أشأ التبرع به حتى لا يغضب زوجي لأنه هدية منه، ولكنه ألح علي كي أبوح له بالسبب الذي دفعني إلى نفوري منه، فتعللت بأنه ضيق، ولكنه يعتقد أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير.
ويبدو أنه محق، فعندما أفحص الأسباب الكامنة وراء رفضي ارتداء ذلك الحذاء لا أجد سببا مقنعا، ولكني أعتقد لو كان بلد الصنع أوروبيا أو أميركا لاختلف الأمر بالنسبة إلي.
ربما موقفي هذا يحيل إلى الكثير من المواقف الأخرى التي نتخذ ضدها أفكارا ذهنية متحيزة، ونلجأ دائما إلى خلق رواية متخيلة لنشرح بها أسباب تصرفنا تجاه حادثة معينة متشابهة في الظاهر مع ما انطبع في ذاكرتنا من أحداث ماضية، قد يكونان في الحقيقة مختلفين تماما.
ليست واضحة تماما بالنسبة إلينا أسباب التهيئة الذهنية المسبقة لاتخاذ أحكام مسبقة تجاه بعض الأمور، لكن أبحاث علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب، خلصت إلى أن الكثير من القرارات التي نتخذها تكون متأثرة بأشياء لا ندركها، وينشأ هذا السلوك عادة عن الطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات، فالناس دائما ينظرون إلى الأشياء في ضوء المثيرات الأخرى الملاصقة لها.
وهذا يعني أن الدماغ يحكم إن كانت الأشياء جيدة أو سيئة، قياسا على المواقف الأخرى التي رآها وسمعها المرء في حياته، بدلا من أن يقارنها مع ما هو ماثل أمامه بشكل عام.
قد تفيدنا الأحكام المبنية على المقارنة والمفاضلة في مواقف عديدة. فإذا كنا نبحث مثلا عن فندق فخم، فإن معايير الفخامة في مدينة لندن تختلف بالضرورة عن معايير العاصمة التونسية.
المواقف المسبقة مقبولة طالما كنا على صواب، لكن في الكثير من الأحيان نكون مخطئين ما يوقعنا في مشاكل ومطبات لا أول لها ولا آخر، وقد يصل بنا الأمر إلى إصدار أحكام على الناس بطريقة أشد قسوة، ولا نراجع أخطاءنا إلا بعد فوات الأوان.
قد نكون جميعاً بيادق تحركها معتقدات سابقة، لكن إذا أمعنا الفكر في المسائل التي تحتاج إلى قرارات حاسمة ومدروسة، قد نتجنب الوقوع في الأحكام المسبقة. أما بالنسبة إلي فالفرصة ما زالت متاحة أمامي لإلقاء نظرة غير منحازة على حذائي، وربما أغيّر رأيي.
____________________________________________________________
*يمينة حمدي | صحافية تونسية مقيمة في لندن.