تحاليل _ تحاليل سياسية _ عدنان الحاجّي يصرخ: ما جدوى الديمقراطية؟
لم يكد يمر شهر واحد على تعرضه لاعتداء عنيف من قبل شخصين، أسفر عن كسر ساقه وجروح في وجهه. حتى صرح مؤسس حركة تونس إلى الأمام عبيد البريكي، أن هذا الاعتداء لم يكن صدفة، بل إنه يجزم أن النائب التونسي عدنان الحاجي مستهدف وأنه يطالب السلطات التونسية بحمايته.
شخصية الحاجي ارتبطت بملف حارق عجزت معه كل الحكومات المتعاقبة تقريبا عن إيجاد حل له ويطرح جدلا واسعا اليوم في تونس. ملف الفسفاط، أكبر ثروة تكتنزها تونس إذ كانت لسنوات مضت تتقدم دول العالم في تصديرها. يتحدر من ولاية قفصة، جنوب غرب تونس، حيث دويّ حديد المناجم ورياح الرديف الرملية والصخور الكلسية التي تُنحت من صوانها العديد من الشخصيات لتبعث بها إلى الوجود.
هو القادم من هُناك، حيث الإنسان البسيط الذي يطفح بأكثر من لغة وأكثر من لهجة كلما تحدّث، تارة بلغة نقابية وتارة أخرى بلغة سياسية رصينة ومتّزنة دون إرباك، وأخرى بلغة تاريخية تعود إلى المكان، لتقر في مجملها بضرورة تسيّد قفصة على عرش الذاكرة الشعبية للتونسيين في مستوى النضال. قفصة التي تفخر بأنها وحدها كانت حضارة قائمة بذاتها حملت اسم “الحضارة القبصية”.
الحاجي يترأس في البرلمان التونسي قائمة مستقلة تدعى “رد الاعتبار” عن دائرة قفصة، وهو أيضا قيادي بارز في حركة انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008. من مواليد أكتوبر 1958 بالرديف، وهو مدرّس تعليم ابتدائي تخلّى عن المسطرة وقلم الرصاص ليتفرغ للعمل النقابي.
انتظروا المزيد
الواقف على ملامح هذا الرجل يلحظ أنها امتزجت بمكونات المكان وصُبغت بطقوسه عبر مراحل طويلة من تاريخ النضال في تونس بدءا مع الحبيب بورقيبة، مرورا بالمرحلة الحرجة مع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وليس انتهاء بالحكومات المتواترة بعد ثورة 14 جانفي 2011.
ينطق الحاجي بأعلى صوته تحت قبة البرلمان على إثر الاحتجاجات الأخيرة التي جدت في تونس حول رفع الأسعار مذكرا الجميع “ما جدوى الديمقراطية إذا لم تقترن بعدالة اجتماعية. الديمقراطية تكون اجتماعية أو لا تكون. إذا لم تكن هناك عدالة اجتماعية ولا توجد حقوق للمظلومين وحقوق للطبقات الفقيرة والمهمّشة فلا توجد ديمقراطية. هذه هي تونس بكل صورها وتفاعلاتها.. هذا شعبنا ماذا نفعل اليوم؟ بورقيبة بجلالة قدره تراجع في 1984، بن علي اهتز عرشه وقال كلمته الشهيرة (غلطوني) أما أنتم فانتظروا المزيد”.
هذا هو الحاجي عندما يطفح بالكلام، وهذه هي صورته كلما اشتدت حرقة على بني جلدته، لكن كل هذا لا يشفع للرجل أسلوبه الذي يميل أحيانا إلى لغة الشارع، وفق توصيف البعض. فيما الأهم من كل ذلك وفق متابعي الإشاعات التي تغمز إلى دوره في عقد مساومات وصفقات تحت الطاولة مع جهات نافذة حول تعطيل نشاط الفسفاط وكلفته الكثير، آخرها تعرضه لعملية عنف.
ظل هذا الرجل إلى زمن ماض قريب رافضا لكل المقاربات التنموية الفاشلة سلوكا وممارسة وتطبيقا على الميدان، لكن متابعين يقرّون بأن ملامحه تغيّرت شيئا فشيئا وتاهت في ثنايا المعارضة الكلاسيكية ولم يعد يكتشف نفسه لا في صالونات النخب اليسارية الحالمة التي تتقاذفها روحانيات الثورة بعيدا عن صوت الميدان، ولا بين أهله وخلانه وبيئته التي نهل منها الكثير وأخرجته للناس.
حبيس بيئته
يقول عنه البعض إنه بغض النظر عن سلوكه، فإن الرجل يكتنز بداخله رصيدا مكثفا من التفاعل بين كل العناصر التاريخية والأنثروبولوجية للمكان، حيث يبرز كمزيج عجيب تفتّق دفعة واحدة في سنة 2008 وكتب في تلك الأيام الموغلة في التعتيم الإعلامي والتضليل الممارس غصبا سطورا سيظل التاريخ حافظا لها لتضاف إلى إرث قفصة النضالي، واضعا لنفسه مصعدا آخر خالف به كل أنواع الركوب في سلم الشهرة السياسية المزعومة، التي لا ترحم إن ضلّ أصحابها الطريق.
ورغم أنه لم ينل حظه إعلاميا كغيره من المتنطعين والمتفاخرين بتجاربهم النضالية في تونس، على قلتهم خلال سنوات حكم بن علي، فإنه في المقابل يبدي أنفة كبيرة وشدة صبر في كل لقاءاته الإعلامية التي يظهر فيها، على ندرتها.
تدرّج الرجل في النضال النقابي تحت مظلة الاتحاد العام التونسي للشغل في نقابة التعليم الأساسية وكان صوته صادحا بكلمة “لا” التي لم يتجرّأ أحد على إطلاقها زمن حكم بن علي. رفعت قفصة ومحافظات أخرى محرومة بينها القصرين وسيدي بوزيد والقيروان كل اللاءات بوجه نظام بن علي وصدحت الحناجر “لا للتهميش. لا للحقرة. لا للبطالة. ولا للمقاربة التنموية الخاطئة” التي تناست تلك الجهات وحرمتها من أبسط حقوقها.
فوجئ التونسيون حينها برجل لا يعرفون عنه سوى القليل. رجل ضخم البنية جسديا، بعينين داكنتين وشفتين غليظتين وصوت جبلي عال يختزل كل مشكلات الحوض المنجمي. يطلق عليه لقب “أسد المناجم”، وهو العليم بأغوارها ودواميسها التي أخذت العديد من رجالات الحوض المنجمي على فترات متباينة من تاريخ نضال هذه المنطقة مع استخراج مادة الفوسفات.
عديدة هي المرويات والأحاديث وكثيرة هي الأغاني وحتى المسلسلات والأشرطة السينمائية وغيرها التي تروي تاريخ هذه المنطقة ومعاناة أهلها مع استخراج هذه المادة منذ الاستعمار إلى يوم الناس هذا، فيما تهتز الأبدان وتقشعرّ كلما صدحت حناجر فرقة “أولاد المناجم” عاكسة آلام الناس، فاضحة سياسة النظام في التهميش والظلم والحرمان. من هنا كانت نقمة قفصة وغيرها من المحافظات الداخلية على سياسة النظام ومقاربته التنموية الخاطئة لتدشّنها أحداث الرديف صيف العام 2008، والتي يصعب محوها من ذاكرة التونسيين.
سنوات جمر بن علي
برز الحاجي في ملحمة الحوض المنجمي في العام 2008 ضد نظام بن علي، وكان مسنودا بسواعد أهلية تكنّ تقديرا واسعا لهذا الرجل وتاريخه النضالي. حُوكم “أسد المناجم” وسجن وتمّ تعليق عضويته في الاتحاد العام التونسي للشغل بسبب انتفاضة الحوض المنجمي والتحرّكات الاجتماعية بالجهة التي قادها.
يروي الحاجي ذلك بحرقة الممتن لما فعله الأهالي في الرديف، مذكّرا بما صنعه المعتصمون في دار الاتحاد المحلي بالرديف عندما أصدروا بيانا يدعون فيه السلطة إلى التراجع عن الخيار الأمني غير الناجع ويطالبون بفتح حوار جدي وبحث عن حلول جذرية للأزمة. بينما تقول عنها الراحلة والمناضلة هي الأخرى زوجته جمعة الحاجي في كتاب للإعلامي المنصف بن مراد “لقد اعتبرت الوقوف إلى جانب زوجي واجبا لم أنتظر منه جزاء ولا شكورا، كانت صحتي هي الثمن الذي دفعته مقابل نضالي الذي ذقت فيه شتى أنواع التعذيب من قبل قوات الأمن التي لازمتني كظلّي وحرمتني من العيش كسائر المواطنين لا لشيء إلا لأنني ثرت على الواقع الجامد الظالم وساندت المتظاهرين في الحوض المنجمي فوقع قمعنا بشراسة”.
وتضيف جمعة أيضا “أتذكر كيف كانوا يفتشون امتعتي و’القفة’ التي كنت أحمل فيها الطعام إلى عدنان عندما كنت أزوره في سجن القصرين، كما تعرضت مرات لا تحصى ولا تعد للإيقافات ثم تجددت مسيرة العذاب ‘الحلو’ إثر نقل زوجي إلى أحد السجون بتونس العاصمة، إذ أنني لم أتمكن من اكتراء منزل يؤويني بسبب أوامر ‘فوقية’ تلّقتها ترسانة بشرية ورافقتني في كل تحركاتي القريبة والبعيدة، ولولا تدخّل الاتحاد العام التونسي للشغل لتمكيني من منزل لأبقى بجانب زوجي إلى حين انقضاء عقوبته لكنت تعرضت للتشرّد والعذاب خاصة بعد أن أصبحت أعاني من قصور كلوي بعد تعرضي لتعنيف وحشي من قبل (البوليسية). تعنيف أدى إلى تمزق عرق في يدي اليسرى حرمني حتى من التمتع بكلية قد منحني إياها زوجي عدنان سنة 2001. ومن يومها بتّ رهينة غسيل كلوي يومي”.
الأهم، من ذلك كله، هو التحدي الذي قاده الحاجّي ضد السلطة بكل شجاعة واقتدار، فكان القائد الأوحد والملهم في معركة الحوض المنجمي، الشيء الذي كلفه السجن والعزل ولكنه في المقابل منحه قدرا كبيرا من الحب والتعاطف بين أترابه وأهاليه في قفصة. فيما يرى منتقدون للرجل أن طابع تصيّد الفرص صورة أخرى لا يمكن فصلها عن هذه الشخصية التي تحركها الأدلجة أكثر من أي شيء آخر حيث يغالي في الانتساب للمكان والذود عنه.
يذكر التونسيون جميعا وممن عايشوا تلك الفترة قبل سقوط النظام في 2011 كيف كانت إشارة منه تبعث بالمدينة إلى الهدوء، فيما تحوّل إشارة أخرى المدينة إلى بركان هائج. بينما يؤكد متابعون أن الرجل كانت بيده كل مفاتيح الحرب والسلم في جدلية العلاقة بين قفصة والسلطة المركزية آنذاك.
هذه هي الصورة الحقيقية للحاجي، صورة يتفاعل فيها ما هو واقعي مع ما هو براغماتي نفعي مصلحي بالأساس يتملك الرجل ويحرك سواكنه. وهي صورة تعززها أيضا اتهامات تربط ضلوعه في كل التحركات الشعبية المعطلة للإنتاج في قفصة وأنه يقف وراء رفض نقل الفوسفات عبر الوسائل التقليدية التي كانت معتمدة، كالقطار. وترويجه لامتلاك وسائل نقل خاصة، عبر شاحنات وغيرها، دون أن يدرأ عن نفسه تلك التهم.
لكن مهما بدا من تعنّت يبديه الرجل فقد تمكنت الحكومة مؤخرا من فرض سلطتها لتعود معها آلة الإنتاج من جديد إلى الدوران، وفق أخبار مؤكدة تدعمها مصادر رسمية أكدت أن عملية الإنتاج استؤنفت بنسق حثيث ولن تسمح للخارجين عن القانون وسلطة الدولة بفرض سلطتهم مثل الحاجي وأمثاله.
يرى بعض المتابعين للحاجي بأن محطته الأخيرة انتهت تقريبا مع ذلك العنوان الكبير المسمّى ثورة 14 جانفي 2011 لتطرحه دفعة واحدة عضوا بارزا في هيئة بن عاشور أو الهيئة المستقلة للانتقال الديمقراطي. بعدها توارى الحاجي عن الأعين طويلا ليعود عضوا داخل مجلس نواب الشعب كمرشح مستقل. فيما الأهم بحسب معجبين بشخصية الرجل أنه لم يكن يحتاج إلى ماكينة حزبية لتحرك أحاسيس العامة والخاصة تجاهه، ذلك أن رصيده النقابي يكفي ليجعل منه أسطورة تقبل التدريس في التاريخ السياسي الحديث لتونس.
العيش على الذاكرة
أسئلة عديدة يطرحها المراقبون للباجي، ما السرّ وراء تغيير الحاجي لبوصلته النضالية؟ هل هو تكتيك متعمد أم فرض عليه غصبا؟ ما هو اللغز الذي أطفأ هذا البركان الهائج ليقوده إلى التراجع والعيش فقط على ذاكرة لم تؤرخ لنفسها ولم تثبّت أركانها بشكل كاف؟ هل هذا هو فعلا عدنان الحاجي أم شبح ينتحل شخصية الرجل؟ أسئلة حارقة وأخرى عصيّة على الفهم تنهل من موضوعية التقييم لشخصية رجل عُرف بغير ما يسلك الآن، فيما يقر متابعون بأنه ربما هكذا تكون النهايات في عالم السياسة، إما أسيرا لفكرة الوصول إلى السلطة وإما أسيرا لذاتية تنكّرت لتاريخها.
احتار البعض في التحول الذي يلف شخصية هذا الرجل الذي انطلق من الميدان ثائرا فكيف له أن يتركه إلى برلماني لطيف، هادئ بربطة عنق وإن كان ليس من هواتها، فيما يقر البعض الآخر بأن قبة مجلس باردو ربما غيّرت الكثير من مقال الرجل ومقامه، لكن مدافعين عنه يقولون إنه حتى داخل البرلمان فقد ظل الرجل محافظا على وزنه النقابي، متمسكا بجذوره وأصله، مدافعا على أهله وبيئته التي لم يتنكر لها يوما.
لكن من المفارقات أحيانا ألّا يسمع لأسد المناجم زئير داخل قبة البرلمان، فيما يقر منتقدوه بأنّه ربما يكون اختيارا مدروسا بالانزواء في ركن صامت لا ضجيج يعتريه ولا ضوضاء تلفه، حتى أن حضوره يكاد يكون باهتا لا موقف ملفتا له ولا اختيار له سوى الابتعاد عن عائلته الفكرية ومن تربى في أحضانهم وكان منهم يوما، في الجبهة الشعبية التي لا يتوانى في الإطباق عليها بسلاح نقده واصفا إياها بالمتعالية.
يقول الحاجي عن اليسار عموما، والجبهة خصوصا، وهو الذي كان جزءا منه يوما إن “أمراض اليسار الطفولي تقتلهم، لأنّ قادة الجبهة متكبّرون سياسيا ولا يريدون النزول إلى الشعب. أما من يتحدثون عن رفضي الانضمام إلى الجبهة لا يعرفون أنهم لم يناقشوا معي هذا الموضوع أصلا”.
ربما هي الأقدار أحيانا التي دفعت بهذا الرجل جثّة برلمانية هامدة لا تقدر على البروز ولا تستطيع التأثير، وربما أيضا وفق توصيف البعض، تناقض في تركيبة الذات المأزومة بأحوالها وأحوال من حولها قد حوّله من ثائر ميداني قوي يهابه الجميع إلى شخص ناعم نعومة الأحزاب الليبرالية وهادئ هدوء المرتمين في أحضان السلطة.
يبدو الحاجي كمن تنكّر لصولاته وجولاته الطويلة في ميادين النضال ومواقفه المغالية في التشبّث بروحية المكان والانتساب إليه ليجد نفسه مذبذبا تارة هنا زمن المصالح، وتارة أخرى هناك زمن النضال.
اعجبني المقال واتمنى للسيد عدنان السداد والتمكين وشكرا