تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ نحن أحفاد قابيل وهابيل! |بقلم: أنيس منصور
شيء غريب… في كلّ مكتبة تردّدت عليها وجدت أكثر الكتب عن الجريمة: كتب بوليسية.. أحدث كتب الجرائم..
أكثر الكتب انتشارا عن الجريمة.. جرائم كلاسيكية.. جرائم إلكترونية.
أما كتب الفلسفة فأقلّ من كتب الأدب وكتب الأدب أقلّ من كتب التاريخ. وكتب التاريخ أقلّ من كتب الفلك، وكتب الفنّ أقلّ من كتب الرياضة والألعاب..
كأن الإنسان لم يشبع من أشكال الدمار والنار.. في الحروب والانتفاضات الشعبية. والإضرابات. كلّ هذه الصور العنيفة الدامية لم تقنع الإنسان بأن يكتفي بهذا القدر ويقلع عن التعطّش للدماء والنّار والعنف والرّعب!
فلا تزال أفلام الرّعب تلقى هوى عند المشاهدين. فالناس يقفون طوابير قلقة ويتزاحمون على الأفلام المخيفة. إنّهم بمنتهى الهدوء يذهبون لتهزّهم الشاشة وتمزّق أعصابهم. ويخرجون سعداء بهذا الزلزال النفسى. وماداموا كذلك فإنّ أحداث العنف والقتل قد اعتادوا عليها ويطلبون المزيد.. ولم نعد ندرك الفارق بين المعارك في الأفلام والمعارك الحقيقية.. وعلى الشاشة نجد المقاومة الشعبية والمقاومة الفنية.. أمّا المقاومة والعنف في الأفلام فهي أدقّ وأكثر إثارة لأنّها عمل بالعقل ويسرد للوقائع بالمنطق. ولذلك كانت الدماء الفنية أجمل وأعمق أثرا..
فنحن أحفاد قابيل الذي قتل أخاه هابيل.. فالدماء والانتقام والحقد يجري في عروقنا. ومن أجمل المشاهد في فيلم قديم اسمه (الكتاب المقدس) بطولة صوفيا لورين.. أن نجد دماء قابيل تسقط في ماء النهر الذي يصبّ في كلّ انهار الدنيا التي شربنا منها.. شربنا دم القتيل.. فدم القاتل والقتيل يلتقيان في عروقنا. ولذلك نحن حريصون على إحياء هذه الجريمة أو مشاهدتها في الواقع والفنّ..
ثم إنّ الحياة اليومية مملة. وتحتاج إلى ما يفتح الشهية على الحياة. ولم نجد حتى الآن إلا الشطة والملح والجريمة في الكتب أو على الشاشة! وفي احدى قصص الأديب الانجليزي (كونان دوبل) الذي اخترع شخصية شيرلوك هولمز البوليسية أنّ أمّا اعتادت أن تروي لطفلها قبل اليوم بطولات والده الذي مات في الحرب. وكان الطفل لا ينام بسهولة. وكان يدهشها بأسئلته الغريبة. ويسألها: كيف كان أبي يحارب العدو دون أن يقتل أحدا بالمدفع. وإذا نفدت الذخيرة لماذا لا يهجم عليه ويقتله بيديه..
وكانت الأمّ تفزع وتحاول أن تهرب من الإجابة فكان الطفل ينفض الغطاء ويستوي جالسا متسائلا: هل تحاولين إقناعي بأنّ أبي لم يقتل أحدا. لابدّ أنّه قتل وهذا ما أريد أن أسمعه بالتفصيل لكي أؤمن بعظمة والدي.. وتستسلم الأم. وتتحدّث عن جرائم والده البطل في الحرب. ولا يكاد الطفل يسمع ذلك حتى تبدو الراحة على وجهه وينام! إنّهم وإنّنا أولاد العنف والجريمة أولاد الحروب. وقد قال لنا المؤرّخ العظيم “ول ديورانت” أنّ الحروب قد استغرقت من تاريخ الإنسانية 1127 سنة.. أمّا سنوات السلام فلم تزد على مائة وعشرين سنة! فكيف لا نفرح بالجريمة وكيف لا ننام على موسيقى المدافع والقنابل وتستمتع عيوننا بدماء الآخرين!