تحاليل _ تحاليل سياسية _ نور الدّين الطبّوبي هل يقوى على ترويض النّقابات المنفلتة في تونس؟
حذر يتحسّس طريقه بثبات. راوغ الجميع وخالف توقعاتهم ليثبت في المؤتمر الأخير لاتحاد الشغل، أنه القوي بلا منازع. يرفض القبول بالتعليمات، ويرفض كل أنواع الوساطات والتدخلات. رابط في جلّ المؤتمرات التي تهم الكادحين والطبقة الشغيلة.
يوصف بالنقابي “القاعدي”. وحتى الأمس القريب كان اسما في الظل. لكنه سرعان ما تحوّل إلى أحد أهم الأسماء في الساحة النقابية التونسية. قدِمَ من النقابة الأساسية، وأصبح أحد أهم الماسكين بمقاليد القيادة في أكبر منظمة نقابية بتونس.
نور الدين الطبوبي الذي لم يكن أحد قادرا على التنبّؤ بمستقبله لكن الأيام أثبتت حقائق أخرى. كان أول من دعا إلى تنظيم مسيرة يوم 14 جانفي 2011 المشهود. خرجت المسيرة من بطحاء محمد علي وتحوّلت إلى شارع بورقيبة أين رفع شعار “ديڤاج” أي “ارحل” الذي بات شعارا تصدح به الحناجر في كل الثورات العربية، بدءا من مصر بعد تونس، مرورا بليبيا وسوريا وليس انتهاء باليمن.
يؤمن الأمين العام للمنظمة الشغيلة بأن النقابي، أيّ نقابي، يجب أن يكرّس جهده للعمل ليلا نهارا. لا يؤمن بالسياسة في الاتحاد، وهو القائل إن “النقابي إذا دخل الاتحاد بجبّة السياسة خسر الاثنين معا: النقابة أو السياسة”.
آمال كبيرة تعلّق اليوم على الرجل الأول في الاتحاد العام التونسي للشغل وأمينه العام الحالي، باعتباره يمثّل صوت التهدئة والحوار في تونس.
يقول العارفون بالرجل إن صوته سيكون بارزا خلال المرحلة الصعبة التي تمر بها تونس، فيما يصنّفه منتقدوه في خانة البارع في الحسابات وإقامة التحالفات. لكن نظرة معمّقة في المسار الذي خاضه الاتحاد العام التونسي للشغل في كل أزمة ومنعرج احتجاجي تدخله البلاد، تجعل من منتقدي هذه المنظمة يراجعون مواقفهم.
من هنا ربما يأتي الثناء على جلّ المبادرات واللقاءات والحوارات التي كان اتحاد الشغل قد تقدّم بها واستطاع من ورائها كسب العديد من النقاط على حساب الطبقة السياسية، وسجل حضوره في أكبر منصات التتويج بحصول الرباعي الراعي للحوار في تونس بقيادة الاتحاد على جائزة نوبل في العام 2015.
هو واحد من الذين اشتغلوا في الخفاء، والتصقوا بالقيادة في الاتحاد، صوتا وصورة، وجنح للظلام “ساتر العيوب”، ليتوّج بمباركته أمينا عاما بعد أن أحسّ الأمين العام السابق الحسين العباسي أنه وصل إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه.
القادم من الشمال
هيّأ الطبوبي لنفسه عبر تكثيف الاشتغال القاعدي يعاضده في ذلك أسلوب ممنهج في الحوار ولغة متزنة في المجادلة، فيما الأهم من كل ذلك طريقته في الإصغاء لمخاطبه إلى ما لا نهاية.
ورث الطبوبي، المولود في العام 1961 بولاية باجة، شمال غرب تونس، أرضا منبسطة، ترابها ثار في تونس، بعد تولّي حكومة الوحدة الوطنية بقيادة يوسف الشاهد الحكم في العام 2016 وفرضها نسقا من الاستقرار التصاعدي خصوصا على المستوى الأمني.
لكنّ عوامل خارجية التزمت بها حكومته أفضت إلى ما أفضت إليه من احتجاجات في العديد من المحافظات، سرعان ما قلّ منسوبها لكنها تبقى مؤشرا خطيرا على هشاشة الوضع في تونس.
وهو ما دعا الطبوبي نفسه إلى التحذير منه بقوله “‘الاحتجاجات التي تستعمل فيها الأسلحة البيضاء والهراوات لكي تغتصب الممتلكات العامة والخاصة تعتبر عمل عصابات ولا تمتّ بصلة لممارسة الديمقراطية”. الطبوبي أضاف أيضا أن “هذه الأفعال لا تعتبر نضالا اجتماعيا لتحقيق الاستحقاقات اجتماعية”.
ينحدر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل من وسط اجتماعي يقول مقرّبون منه إنه “متوسط الحال” ومن بيئة اجتماعية توصف بالمحافظة. وهو ربّما ما جعله أكثر التصاقا بأسرته.
أما نقابيا فإنّ منطقة الشمال الغربي، وتحديدا محافظة باجة التي يتحدّر منها الطبوبي، ليست لها تقاليد كبيرة مقارنة مع جهات أخرى على غرار صفاقس والعاصمة والساحل، لذلك ارتكن الرجل للعمل القاعدي في العاصمة وبدأ في رسم معالم تدرّجه من النقطة السفلى في السلم.
انخرط الطبوبي في العمل النقابي منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، حينما شغل خطة كاتب عام نقابة أساسية في شركة اللحوم، وهي أوّل مسؤولية له. ثم اختار العمل في صمت بعيدا عن الأضواء. بعدما يقرب من ثلاثة عقود من النضال النقابي المتواصل استطاع خلالها معرفة “الماكينة” من الداخل، الأمر الذي سمح له بالتخطيط بهدوء لاعتلاء هرمها.
تدرّج في سلم المسؤوليات من نقابي قاعدي إلى مسؤول عن نقابة أساسية إلى كاتب عام للاتحاد الجهوي بتونس مكلّف بالنظام الداخلي، بعد عشرية كاملة تفصله عن أوّل مهمّة له في المنظمة تحديدا سنة 2001.
وفي نفس السنة شغل خطة كاتب عام الفرع الجامعي للفلاحة بتونس الكبرى، ثم بعد تسع سنوات أصبح الأمين العام للاتحاد الجهوي بتونس، أهمّ جهة نقابية من حيث الثقل المؤسساتي والنقابي وأيضا السياسي.
وقد أهلته هذه الخطة المهمّة لأخذ موقع له في القيادة المركزية خلال المؤتمر الوطني الذي انعقد بعد الثورة في طبرقة، ليشغل خطة أمين عام مساعد مكلف بالنظام الداخلي. ذلك المؤتمر الذي عقد في ظرف دقيق مرت تونس وجاء بمباركة حسين العباسي أمينا عاما خلفا لعبدالسلام جراد.
اختيار الوقت والظرفية آلية عمل توليها القيادة في المنظمة الشغيلة أولوية قصوى، فيما التكتم شعار معاضد للنضال يأبى المنتسبون إلى هذا الهيكل إخراجه للعموم.
المراقب للمنظمة من الداخل لا يكتشف منهجية عمل مربكة أو طرحا منفلتا من هذا أو ذاك، وإنما قاعدة أساسية شعارها كلمة معهودة على كل لسان يصدح ويتكلم لمتسائل أو حتى طالب خدمة ما “انتظر الأخ القائد”، في إشارة إلى الأمين العام.
المحسوب على النهضة غصبا
أشد تهمة التصقت بالطبوبي انتماؤه إلى حركة النهضة. وبين التأكيد أو النفي فإن الأمين العام للمنظمة النقابية يستميت في تكذيب كل طرح يحاول إلصاقه بطرف حزبي من هذا أو ذاك.
ورغم أن تقاریر صحافية تحدثت عن جهود حثيثة قامت بها حركة النهضة قبل انتخابات 2017 لاختراق الاتحاد العام التونسي للشغل وإيجاد صوت يخدمها هناك.
وأشارت هذه التقارير إلى أن لقاء سرّيا تم بين قياديي الحركة عبدالكريم الهاروني وفتحي العيادي مع مسؤول النظام الداخلي نورالدين الطبوبي والأمين العام المساعد لاتحاد الشغل حفيظ حفيظ في المكتب الجهوي لحركة النهضة بمنوبة.
وتم خلاله الاتفاق بشكل نهائي على دعم حركة النهضة من نورالدين الطبوبي المرشح في انتخابات الاتحاد العام للشغل حينها، وبعد هذه الاتفاقية أعلنت حركة النهضة دعمها من الطبوبي لأعضاء الحركة.
لكن الطبوبي وصف تلك الإشاعة بالكاذبة، وقال إنه ملتزم بخط الاتحاد وهو الوقوف على نفس المسافة مع جميع الأحزاب بمختلف توجهاتها ومشاربها الفكرية.
فيما يرى منتقدوه أنه اختار التخندق في صف المنظمة النقابية التي ينتمي إليها، ولم يرد على تلك الاتهامات قبل دخول الانتخابات محافظا على قائمة وفاقية حملت وجوها يسارية معروفة مثل أعضاء المكتب التنفيذي المنتهية ولايته والمرشحين للعضوية من جديد سامي الطاهري وحفيظ حفيظ وسمير الشفي.
الطاهري الأمين العام المساعد للاتحاد العام للشغل نفى كل هذه التهم التي تروج لها جهات عديدة حول تسييس الاتحاد من الداخل، وقال لـ”العرب”، إن “الاتحاد بعيد عن التسييس إلى أبعد الحدود.
وهو منظمة خلقت للدفاع على حقوق الشعب ورفع كل أنواع الحيف الاجتماعي عنه، وهو منظمة أيضا تتدخل في الشأن العام إذا تطلب الأمر ذلك. الاتحاد يسعُ الجميع وخلق للجميع ولا يوجد من يزايد على المبادرات والحلول والحوارات التي كان الاتحاد سباق لصنعها ومازال يسعى في هذا الباب ولن يتراجع عنه”.
أما الطبوبي فيقول إن “الاتحاد العام التونسي للشغل هو قوّة خير وبناء. نحن أناس يؤمنون بالحوار الجدّي والحوار البنّاء”، رافضا الخطابات الشعبوية والشعارات الفارغة.
الوفي للخط العاشوري
يعتبر الطبوبي وفق تصنيفات النقابيين ولد “الجهاز” أو “الماكينة”. وفي “البطحة”، أي الساحة المعروفة أمام مقر الاتحاد وتسمى بساحة محمد علي، ينظر إلى الطبوبي على أنه المستميت في الدفاع عن الخط العاشوري، نسبة إلى النقابي الكبير الحبيب عاشور، وهو تيار “يتشرف بالانتساب إليه”، وفق قوله، ويرى أنه نهج متحرّر من كلّ ارتهان للسياسي والأيديولوجي لصالح البعد النقابي البراغماتي والوطني.
يتماهى الطاهري تماما مع ما قاله الطبوبي في هذه النقطة، لكنه يرفض وصفه بالخط العاشوري، ويقول لـ”العرب”، “هو نهج نضالي متكامل تربّى عليه أبناء الاتحاد وساروا على دربه. بدءا من حشاد مرورا بالحبيب عاشور وأحمد التليلي إلى حسين العباسي وغيرهم”.
لعلّ هذا ما يجعل من الطبوبي نقابيا كلاسيكيا غير بعيد عن مواصفات سلفه السابق حسين العباسي، وهي مواصفات تحظى بمساندة الأغلبية المطلقة في الجسم النقابي في مختلف مستوياته، فضلا على أنها مطلوبة أيضا من قبل بقية الفاعلين السياسيين في البلاد، باعتبارها تمثل أكثر نهج الاستمرارية في سياسات وخيارات المنظمة النقابية ومواقفها.
هذا الخيار يمعن الطبوبي في التشديد عليه بقوة، مؤكدا أنه متمسك به مثلما هو متمسك بمواصلة الدور الوطني للاتحاد، خاصّة في مرحلة يقول إنها صعبة وتفترض التوافق والحوار والشراكة بين كل القوى الوطنية لتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية الكبرى، مثل معالجة أوضاع الصناديق الاجتماعية ومأسسة الحوار الاجتماعي وغيرهما من الملفات الحارقة التي تعاني منهما تونس في الظرف الراهن. فيما يقول عنه رشيد النجار النقابي السابق هو “نقابي عاشوري وفيّ لمبادئ الحبيب عاشور النقابية”.
بعد الهدوء النسبي لموجات الاحتجاجات المتصاعدة في تونس مؤخرا، فإن الدور الكبير يظل موكولا لهذا النقابي هو ترويض النقابات المنفلتة، على كثرتها. خصوصا تلك التي تتحيّن الفرص وتختار زمن الشدائد والأزمات للمطالبة بالزيادة.
غير أن ما جاء على لسان الطبوبي حول أن “المفاوضات الاجتماعية قد تنطلق أواخر شهر فيفري الجاري، وليس في شهر أفريل، في القطاعين العام والخاص من أجل تعديل المقدرة الشرائية للأجراء”، رأى فيه منتقدون للمنظمة النقابية دفعا نحو خيار الجنوح للأزمة لا محاولة إخمادها والتقليل من منسوبها. معلومة المطلبية الشعبية والوضع الذي تمر به الطبقات الاجتماعية، لكن الانتظارات المعلقة على اتحاد الشغل بالمساهمة في التقليل من حدة الاحتقان الذي يعيشه الشارع وتهدئة الخواطر أكثر، هي بالتأكيد أطروحة من أطروحات العمل القاعدي التي تربّى عليها الطبوبي والعديد من قادة الاتحاد.
—————————————————————————————
* الحبيب مباركي.