تحاليل _ تحاليل سياسية _ هل للغنّوشي دولة داخل الدولة؟ |بقلم: نزار بولحية*.
ذات مرّة سُئِل القيادي النهضاوي ورئيس الحكومة التونسية الأسبق علي العريض في برنامج تلفزيوني محلّي عن رأيه في انتقادات المنسّق العام لحزب المسار المعارض المستمرة لحركة النهضة، فأجاب أنّ هناك شططا كبيرا في مهاجمة حزبه، وأضاف بأن «سمير بالطيب لو دخل مطعما ولم يعجبه الأكل فسوف يردّ السبب إلى النهضة».
وربّما ارتسمت تلك الصورة الكاريكاتيرية مجدّدا في أذهان بعض من تابعوا الأربعاء الماضي خبر الزيارة الغامضة والمريبة لوفد من حزب المشروع إلى بنغازي للقاء المشير الليبي خليفة حفتر، ليستنتجوا أن الدخول إلى الثكنة قد لا يختلف كثيرا عن دخول بالطيب إلى المطعم. لقد كانت التساؤلات عميقة وكثيرة حول ترتيب الزيارة وتوقيتها. فليس معروفا حتى الآن إن كان الزوار أخطروا الرئيس بخطوتهم تلك أم لا؟ وهل سافروا بمباركته أم من دون علمه؟ وهل أرادوا بذلك اللقاء خدمة مساعيه لحل الأزمة في ليبيا؟ أم سعوا بشكل من الأشكال للتشويش عليها وإجهاضها؟ وما الذي جعلهم يحرصون على مقابلة المشير في ذلك الوقت بالتحديد؟ كلّ ما قالوه إنهم حرصوا على الذهاب إلى خليفة حفتر في ثكنته العسكرية، لأنهم يتقاسمون معه الأهداف ذاتها، وهي محاربة الإرهاب والعداء «للإسلام السياسي».
ولعل ما زاد الغموض والضبابية هو أن مصالح الرئاسة سارعت إلى أخذ مسافة من الموضوع، وقالت في بيان رسمي، إنّ وفد الحزب «لم ينسّق مع رئاسة الجمهورية أو وزارة الشؤون الخارجية حول هذا اللقاء، بل اقتصر الأمر على اتصال هاتفي صباح الأربعاء من بنغازي بليبيا للإعلام بتواجد وفد حزبي لمقابلة حفتر، لدعم مبادرة رئيس الجمهورية حول التسوية السياسية الشاملة في ليبيا». فيما أصر محسن مرزوق القيادي السابق لحزب النداء على التأكيد على أنه «لم يلعب أيّ دور يدخل في صلاحيات العنوان الرئيسي للدبلوماسية التونسية، أي رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية»، وأضاف في تصريح لصحيفة «المغرب» المحلية «أن من كتب بيان الرئاسة لا يفهم شيئا». ولم يضع استقبال قائد السبسي له في اليومين المواليين حدّا لحالة اللبس والغموض بقدر ما ألقى شكوكا قوية حول طبيعة اللقاء والهدف الحقيقي منه.
وفيما ظل ذلك الهدف لغزا مبهما ومعلقا، انتقل اهتمام الصحافة المحلية بشكل سريع إلى ما وصفته بـ «الدبلوماسية الموازية» للإيحاء بأنّ ما فعله مرزوق لم يكن أقل وزرا وخطورة مما فعله الشيخ الغنوشي رئيس حركة النهضة، حين طار إلى الجزائر لملاقاة بوتفليقة، أو حين التقى في تونس وفودا من الغرب الليبي. كان مربط الفرس هو أنّ تحركات الشيخ للوساطة في الملف الليبي، التي تمّت كما أقر الرئيس قائد السبسي نفسه بالتنسيق التامّ معه، باتت تزعج أكثر من طرف محلي وإقليمي لا يرتاح لما يراه تصاعدا ملحوظا لدور الزعيم الإسلامي في الداخل والخارج. ولعل ما يخشاه هؤلاء هو أن يستغل الشيخ شبكة العلاقات الواسعة التي استطاع نسجها ثم تطويرها وتنويعها لتضم أطرافا ووجوها دولية كانت قبل سنوات قليلة فقط تناصبه العداء، لكسب أوراق مهمّة ووازنة في السباق المرتقب على السلطة.
لكن هل يعني ذلك أنه ينبغي هدم كلّ جهد أو نجاح محلي أو خارجي يتحقّق لتونس مادام الغنوشي يقف بشكل من الأشكال وراءه؟وهل في التنقل إلى ثكنة المشير الليبي دلالة رمزية على أن الأمور ستظل تُمْسَك فقط من داخل قصر قرطاج، ولا مجال على الإطلاق لأيّ جهد أو دور من خارج القصر حتى لشركاء الحكم، مادامت إدارة الملفات الخارجية حكرا على السلطات الرسمية دون سواها؟
لقد قال إعلامي معروف في سبتمبر الماضي لإحدى المحطات الإذاعية «إنّ حركة النهضة تمارس الدبلوماسية بالنيابة عن الدولة. وأنا أقول هنيئا لها مادامت هي التنظيم الوحيد المهيكل الذي يملك استراتيجية ورؤية في العلاقات الخارجية… لقد صنع الغنوشي لنفسه دولة داخل الدولة، ومن هو الحزب السياسي الذي لا يستغل الفراغ الذي حوله ولا يفعل ذلك، فحتى حزب النداء لم يعد يملك مكتبا للعلاقات الخارجية، وكان محسن مرزوق في السابق هو من يمسك ملف العلاقات الخارجية للحزب، أما الآن فلا وجود لشيء». وعاد ليتساءل في جانفي الماضي في البرنامج ذاته «ماذا نفعل إذا كان حزب سياسي هو حركة النهضة أقوى من الدولة والحكومة في الملف الليبي، وإذا كان النهضويون يفهمون ما يجري في ليبيا أكثر من الحكومة؟».
ومن الواضح أن تصوير الأمور على ذلك النحو لم يكن عملا ساذجا ومعزولا، فعلى مدى السنوات والشهور الأخيرة تكرس انطباع داخل تونس على توسع نفوذ الغنوشي وامتلاكه سلطات خارقة وغير محدودة، جعلته يمسك كل خيوط الملفات الخطيرة والحساسة في الداخل والخارج. أما كيف استطاع أن يفعل ذلك وما المفاتيح التي حصل عليها حتى تشرع في وجهه كل بوابات وقلاع السلطة، ويصبح اكثر الشخصيات التونسية حظوة وشهرة في العالم؟ فهذا ما لا يملك خصومه جوابا واضحا ومحددا عنه، وكل ما يرددونه هو أن الرجل صار يمارس أدورا تتخطى بكثير صفته رئيس حزب أغلبية في البرلمان.
إنهم يتصوّرون أن تلك الحدود التي يفترض الوقوف عندها، هي تلك التي تعني صلاحيات الرئيس الحصرية. فهو المسؤول المباشر عن رسم السياسة الخارجية للبلاد. وهذا أمر منطقي ومعقول ولكنهم يغفلون بالمقابل حقيقة أخرى، وهي أن الانفراد بوضع تلك السياسة ومتابعة تنفيذها لم يعد ممكنا ومجديا بالأساليب القديمة، التي تقصي أي استفادة من أي جهد أو فرصة، لمجرد الاختلاف والعداء الأيديولوجي. فالحد الأدنى من البراغماتية بات يقتضي الخروج السريع من قوقعة الأيديولوجيا للبحث عن المصلحة. وربما كان العائق الحقيقي هو فقدان الثقة المتواصل في نوايا الشيخ الغنوشي وحزبه أكثر من أي شيء آخر. فحتى المتباكون على الدولة والمحذّرون من دبلوماسية موازية لها، لا يبدو أنّهم سينزعجون بالقدر نفسه لو أن طرفا آخر قام بالتحركات والجهود التي يقوم بها الغنوشي. فما يهمهم ليس الحفاظ على الدولة بقدر ما هو استمرار احتكار السلطة وإبقاء الإسلاميين، الذين صاروا جزءا من الائتلاف الحاكم فقط مجرّد واجهة خارجية للديمقراطية. وقد تكون زيارة مرزوق إلى ثكنة المشير الليبي علامة أخرى على حالة الانفصام التي تحكم علاقة السلطة بهم. فهي تضخّم حجمهم مرات وتحذّر منهم، وتقول بأشكال مواربة وحتى علنية، إنهم يشكلون خطرا على النظام، ويكوّنون دولة داخل الدولة حتى تحمّلهم سقطات الحكم وترسل لهم وللرأي العام مرّات أخرى إشارات على أنّها لا تزال تضع يدها بالكامل على كلّ السياسات ولن تسمح لهم بأيّ اشتراك أو دور فاعل فيها حتى تشعرهم بأنّ الأوضاع والمعادلات لم تتغيّر.
هل يكون الحل في النهاية هو تقليص نفوذهم تمهيدا للتخلّص منهم وطردهم من المواقع التي وصلوها بعد الانتخابات الأخيرة؟ هذا ما يفكر به أصدقاء حفتر ومن قاموا بتلك الزيارة المريبة له في بنغازي، وأيضا من اعتادوا اتهام النهضة بالتقصير كلما وجدوا الأكل في المطاعم سيئا.
*كاتب وصحافي من تونس.