تحاليل _ تحاليل فنّية _ لا عجب أن تسعى سلطات شتّى إلى توظيفها: الموسيقى الكلاسيكية والسلطة. |بقلم: بشار عبد الواحد لؤلؤة*.
كتب لودفيك فان بيتهوفن (1827-1770) في رسالة قيمة للروائية والموسيقارة والراعية الألمانية الكونتسة بتِينا برنتانو فون آرنِم (1785-1859) يقول فيها، وكأنه يخاطب من خلالها البشرية جمعاء: «إنّ الموسيقى تَجَلٍّ أسمى من الحِكمة والفلسفة قاطبة». وإذا سلّمنا أن مؤلف إحدى مجموعات الأعمال الموسيقية الأوسع انتشاراً في العالم كان ذا نظرة ثاقبة لا تقلّ عن غيره من المؤلفين العظام – كي لا نقول أعمق من غيره من الفنانين عموماً، نظراً إلى موهبته الفردية الفذّة وتحدّيات حياته الصحية الشائكة – فإنّ مقولته هذه تستحقّ شيئاً من التأمّل.
ودوّن القاص الدنماركي هانس كرِستيان آندرسن (1805-1875) في هذا السياق يقول: «حين تعجز الكلمات، تتكلم الموسيقى». أمّا الكاتب الأمريكي هنري ديفِد ثورو (1817-1862) فقد ذهب إلى أبعد من ذلك: «حين أسمع موسيقى ما، لا أخشى أيّ خطر، بل أراني منيعاً، غير آبهٍ بالأعداء، ذا صلة بغابر الأزمان وبحديثها». ولكأنّ كونفوشيوس (551-579 ق.م.) يجيبه في كتاب الطقوس من غابر الأزمان جازماً: «ينجم عن الموسيقى نوع من المتعة لا تقوى الطبيعة البشرية على المعيشة بدونه». وحتى أحد أكثر شعرائنا عالميةً، جبران خليل جبران (1883-1931)، تطرق مراراً إلى السحر المسموع: «الموسيقى لغة الرّوح، فهي تكشف سرّ الحياة وتحمل السلام وتمحي الفُرقة».
فلا عجب إذاً، والحال هذه، أن تسعى سُلطات شتى، حكاماً وحكومات، في بلدان شتى وعلى مر العصور إلى توظيف «لغة الروح» لأغراضها الخاصة، بل وحتى إلى محاولة التماهي مع هذه اللغة، لعل شيئاً من سحرها يعلق بأطراف ثياب السلطات فيسبغ عليها بريقاً يأخذ الألباب. ولنتمعن في أمثلة معدودة تجسد ذلك السعي الدؤوب في أواسط القرن العشرين في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية والولايات المتحدة الأمريكية.
لقد راح بنيتو موسوليني (1883-1945) بعد أن تربع على عرش السلطة في 1922، مهمشاً بذلك دور ملك إيطاليا، يرغم أبناء بلده من الموسيقيين على إبداء الولاء لحكمه بعزف النشيد الفاشي، وعنوانه «الشباب» قبل أداء أي أوبرا، وذلك حتى في غيابه، بينما كانت العادة تجري على عزف النشيد الملكي عند حضور الملك أو ولي العهد وحسب. ولم يمتلك العديد من الموسيقيين المعاصرين ومن ضمنهم أسماء لامعة الجرأة في تحدي أوامر الحاكم الفعلي الجديد، ما عدا أشهر قائد أوركسترا إيطالي، وأحد أشهر قادة الأوركسترا في تاريخ الموسيقى، آرتُورو توسكانيني (1867-1957).
ونجمت عن موقفه الرافض هذا مواجهات عدة بينه وبين ناشطين فاشيين أخذوا يحضرون أمسية بعد أخرى في دار الأوبرا الشهير بميلانو «ألا سكالا» تحت قيادته لا لأجل التمتع بالأداء الموسيقي بل كي يطالبوه بأعلى أصواتهم بقيادة نشيدهم وهو يهم بقيادة افتتاحية الأوبرا لتلك الأمسية. لكن توسكانيني، في كل مرة، لم يبدِ أي ردة فعل البتة، بل كان يباشر بقيادة افتتاحية الأوبرا، تليها فصول الأوبرا كلها، وكأن شيئاً لم يكن. وثمة برقيات ورسائل وإفادات شهود عيان توثق أن موسوليني كان يراقب هذا التمرد أولاً بأول ويستشيط غيظاً منه عن بُعد، من مقره في روما، حتى نفد صبره وقر قراره على حضور إحدى أمسيات الأوبرا تلك شخصياً. فأمر بنشر نيته في الصحف والإذاعة كي يضمن وصول رسالته إلى توسكانيني. لكن متمردنا لم يكن ليستجب إلا إلى «لغة الروح» لا للغة التهديد والوعيد، فكان أن انطلق صوبه الناشطون الفاشيون إياهم أثناء التهنئة بعد انتهاء الحفل وراحوا يتوعدونه بالضرب وجهاً لوجه، ما أثار حفيظة مشجعيه الذين أخذوا يحمونه بأجسامهم، وسرعان ما أدى ذلك إلى مشادة بشعة لم يحمِه من أسوأ تبعاتها إلا إسراع بعض مساعديه بالهرب به بعيداً. وأقسم توسكانيني بُعيد تلك التجربة المريرة أن يهاجر من وطنه الأم وألا يعود إليه حتى سقوط الفاشية. وهكذا كان، فهاجر هو وعائلته إلى نيويورك ولم يعُد إلى إيطاليا إلا بعد 1944، وذلك للزيارة وحسب. ومن الجدير بالذكر هنا أن توسكانيني كان يتمتع بشهرة سمحت له بالمجازفة بالهجرة إلى نيويورك دون عقد عمل مسبق، إذ قامت شركة «أن. بي. سي» للإذاعة باستحداث فرقة سمفونية كاملة على شرفه وبإشرافه وتحت قيادته، بل وتم حلها بعد مماته، ما لم يحظ به أي من الموسيقيين الأوروبيين الذين هاجروا إلى أمريكا.
أما آدولف هتلر فقد كان تعامله مع معاصريه من الموسيقيين الألمان أكثر شراسة من الفاشيين بمراحل، إذ لم يسمح لأي مواطن، موسيقيياً كان أم لا، بالسفر، ناهيك عن الهجرة، إلا بعد استجواب طويل للتحري عن موالاته أو معارضته للنظام وبإذن رسمي شح إصداره. أدى ذلك بالعديد من الموسيقيين وغيرهم إلى اللجوء إلى السويد وسويسرا المحايدتين عن طريق التهريب كي ينجوا بجلدهم، وإما البقاء في أحدهما أو الهجرة إلى غيرهما من البلدان.
والادعاء الشائع لدى البعض بأن المحرقة كانت خاصة باليهود مغلوط للغاية، فقد شملت كل من عارض النازية. إذ لم يتردد النازيون في إرسال معارضيهم من الكاثوليك والبروتستانت، وهم كُثُر، إلى المحرقة، ومن ضمنهم موسيقيون مرموقون قضوا في ظروف بائسة. ولأجل التوضيح: لقد كان المواطنون الألمان قبل وإبان النازية وحتى يومنا هذا ممن يدينون باليهودية يصنفون نفسهم على أنهم ألمان أولاً، ثم يهود ثانياً، إذ كانت سياسة الفصل على أساس الدين بدعة تبناها الآباء الروحيون للنازيين وما زالت حكومات العالم تطبقها بُغية تفكيك المجتمع لإحكام السيطرة عليه.
ولعل فِلهلم فُورتفنغلر (1886-1954) أشهر قائد أوركسترا ألماني من معاصري هتلر، إن لم نقُل أرهف قادة الأوركسترا شاعريةً على الإطلاق. وهو الذي كان يترأس فرقة برلين الفلهارمونية، إحدى أهم الفرق في العالم. ولم ير في وصول النازيين إلى سدة الحكم سبباً كافياً للاغتراب عن وطنه والابتعاد عن تراثه. وظل يقود الحفلة تلو الأخرى في برلين وفي سائر المدن الألمانية دون أن يتملق لأحد، بل ووظف شهرته لدى السلطات وعلاقاته معها خلف الكواليس لإنقاذ من أمكنه إنقاذهم من المحرقة، رغم أن تلك كانت مهمات محفوفة بأخطار محدقة. ولنتخيل لوهلة مدى عمق التزامه بإنسانيته، لا سيما وأننا الآن ننعم برفاهية المعرفة بأن عهد هتلر لم يدُم أكثر من اثنتي عشرة سنة، بينما بدا لمن كان يرزح تحت نير النازيين ألا نهاية لعهدهم.
وحين حررت القوات الأمريكية ألمانيا من النازيين، ظن الجميع أن عهداً مشرقاً قد أزف في البلاد. وكانت المفارقة اللاذعة أن محنة فُورتفنغلر تجددت في بزة جديدة، إذ منعه محرروه من ممارسة مهنته واضطر إلى الدفاع عن تعامله مع النازيين لدى ضباط أمريكيين لم يفقهوا يوماً شيئاً من الثقافة، ناهيك عن الموسيقى الكلاسيكية، شأنه شأن كل الألمان المرموقين الذين لم يفروا من وطنهم، وما أكثرهم. وراح الحكام الجدد يكيلون له التهم بالتواطؤ مشيرين إلى أفلام وثائقية يظهر فيها وهو يقود حفلاته البرلينية وأوبرات فاغنر في بايرويت كما يظهر هتلر وجلاوزته بين الحضور. ولم ينتهِ الكابوس حتى توسطت مجموعة كبيرة من الفنانين والمثقفين، من أوروبيين وأمريكيين، تدافع عنه وتبرر اضطراره للتعامل مع النازيين مع الإشارة إلى عدم تهليله لهم، إضافة إلى جهوده في إنقاذ زملائه وأصدقائه.
ولنتذكر أن حكومة فرانكلن د. رُوزفلت، في أعقاب الهجوم الياباني المباغت على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر في مملكة هاواي في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1941 أنشأت معسكرات اعتقال لجميع المواطنين الأمريكيين (وكان عددهم 127 ألفاً) من أصل ياباني بحجة أنهم عرضة لخيانة البلاد إذا ما احتلـت اليابان الساحل الأمريكي الغربي. وظلت هذه المعسكرات قائمة من 1942-1945 رغم أن ألفين من الشبان المعتقلين فيها تطوعوا لمحاربة دول المحور نيابة عن وطنهم الأمريكي الأم رغم أن وطنهم أبقى على أفراد عائلاتهم معتقلين أثناء قتالهم من أجله في أوروبا وآسيا. أي أن الأمريكيين الذين ما فتئوا يفاخرون بحسهم للعدالة والحرية لم يتورعوا عن محاكاة النازيين في تفكيك مجتمعهم. صحيح أنهم لم يُقدموا على تصفية مواطنيهم، لكنهم لم «يتلفحوا بالمجد» في الوقت ذاته، كما يقول المثل الإنكليزي. وقد يكون من أشهر أولئك الذين أُرسلوا إلى معسكرات الاعتقال تلك الممثل الأميركي من أصل ياباني جورج تاكيه الذي برز في دور الملاح في مسلسل وأفلام الخيال العلمي رحلة النجوم.
ولم تعتبر الحكومة الأمريكية من خطيئتها بحق مواطنيها من ذوي الأصل الياباني، بل عاودت الكرة في الخمسينات بزعامة عضو مجلس الشيوخ من ولاية وِسكونسِن، جوزيف ماكارثي الذي اتهم قطاعاً هائلاً من المفكرين والفنانين دون تقديم أي أدلة بالتآمر مع الاتحاد السوفييتي ضد حكومته من خلال عضويتهم في، أو تعاطفهم مع، الحزب الشيوعي الأمريكي. ونتج عن تلك الحملة الشعواء انقطاع أرزاق العديد من الموسيقيين الأمريكيين، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، المؤلف آرون كوبلند (1900-1990).
إذاً فالتعايش مع الآخر، بمعنى التسامح والتقبل عن رغبة ووعي، والانفتاح على الثقافات والفنون بأصنافها وأياً كان مصدرها، من صفات المجتمع المتحضّر الحرّ. يغذّي كلٌ منهما الآخر، ويتآكل كلّ منهما بتآكل الآخر. ويبدو لي أنّ عالمنا هذا في أمسّ الحاجة للاستزادة من كليهما معاً كما لم يكن يوماً من قبل.