تحاليل _ افتتاحية _ بعد 62 عاما من الاستغفال …. هل كان حقًّا استقلالًا ؟!
تعيش البلاد التونسية هذه الأيّام على إيقاع أحداث متسارعة تسارعا رهيبا يكاد يطبق على أنفاس النّاس ويخنقهم …إذ يكاد يمرّ الحدث دون أن ندرك أسبابه ونتائجه وآثاره …وتكاد المواعيد تباغتنا وتراوغنا وتمرّ وراء ظهورنا دون أن ننتبه أو نأبه في أحيان كثيرة….
لقد نسي أغلب التونسيين – في خضمّ الأحداث – أنّ يوما واحدا يفصلنا عن الاحتفال بذكرى الاستقلال …قد يكون تناسيا أيضا.. فلم تعد هذه الذكرى من الثّوابت التي تجمع كلّ التونسيين …وهذه حقيقة لابدّ من الاصداع بها ومواجهتها عوض التعامي عنها وتجاهلها.
لماذا يختلف التونسيون في نظرتهم إلى استقلال بلادهم ؟
ما الذي يمنع التونسيين من الاحتفال بذكرى استقلال وطنهم كما تحتفل الشعوب الحرّة بأغلى مناسباتها الوطنيّة ؟؟
لماذا تمرّ ذكرى استقلال البلاد في صمت وهدوء مريبين ؟؟؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ من الحفر عميقا …بعمق ستّين عاما إلى الوراء …
فقبل اثنين وستّين عاما كان التونسيون مختلفين ومنقسمين حول مفهوم الاستقلال والسّبيل إلى تحقيقه وتثبيته على الأرض….
أ لم يُقَسَّم الاستقلال في تلك الأيام إلى استقلال داخلي واستقلال تامّ ؟
أ لم ينقسم الناس في تلك الأيّام إلى مُنَاد بالاستقلال التامّ ودحر الغزاة بقوّة السّلاح، ومُنَاد بالحصول على الاستقلال الدّاخلي أوّلا وإلقاء السّلاح والتّفاوض مع الغزاة ؟
إنّ جذور اختلاف التونسيين اليوم في نظرتهم إلى استقلال بلادهم ضاربة في أعماق تاريخ هذه البلاد …وها أنّنا بعد أكثر من نصف قرن من معارك التحرير الوطني مازلنا نراوح مكاننا الأوّل ….
فما زال هناك إلى اليوم من يَمُنُّ على الشّعب باستقلال البلاد بعد أن لخّص تاريخ هذه الأرض في رجل واحد أحد لم يشاركه أحد في تحرير البلاد وبنائها… إنّه مجاهدهم الأكبر.. فلولاه لبقيت البلاد إلى اليوم مستعمرة فرنسية ولبقي التونسيون رعاة يطاردون الماء والكلأ في الفيافي والقفار…
وهناك من التونسيين من يرى أنّ الاستقلال لم يحصل أبدا وما وقع ليس إلّا عملية استغفال ومغالطة كبرى راح ضحيتها رجال ونساء صادقون دافعوا عن البلاد بكلّ شرف وإباء ورفضوا الذلّ والهوان فوقع فرزهم والاستفراد بهم وطحنهم لأنّهم رفضوا السّير وراء الزعيم الملهم المغوار الذي لا يشقّ له غبار… لقد اصبحوا حينها قطّاع طرق وخونة و” فلّاقة ” (أي إرهابيين بمصطلحات هذه الأيّام وتوصيفاتها)…
لقد أقْصِيَ فريق هائل من التونسيين – أحسب أنّهم كانوا يمثّلون الغالبية الغالبة – من اتخاذ القرار وتحديد مصير البلاد إبّان معارك التحرير … في حين دعّمت فرنسا فريقا آخر من التونسيين – أحسب أنّهم قلّة قليلة – ودفعت به إلى الواجهة وساندته في القضاء على كلّ نفس وطنيّ يطالب بالاستقلال الحقيقي للبلاد.
كلّنا يعرف – إنْ كثيرا أو قليلا – أسباب ونتائج ما أصبح يُعرف بالفتنة البورقيبية اليوسفية…
اليوم وبعد 62 سنة من ذكرى 20 مارس 1956 لابدّ من تصحيح التاريخ وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية…
إنّ ” الفلّاقة ” ثوّار الخنادق وقمم الجبال… هم من قدّم باكورة الاستقلال لتونس وليس بورقيبة الذي لم يحمل في حياته بندقية وقضى أغلب حياته في الفنادق والمنتجعات والقصور.
” الفلّاقة ” هم من صعدوا إلى الجبال وتركوا كلّ الدنيا وراءهم…هم من روت دماؤهم تربة هذا الوطن..هم من ترمّلت نساؤهم..هم من تيتّم أبناؤهم…هم من دفع أحفادهم فاتورة تخندقهم في خندق المقاومة المسلّحة والإصرار على استقلال كامل غير منقوص.
ولتتأكّدوا عودوا إلى كتب التاريخ.. ستجدون أنّ من تركتهم فرنسا وراءها في الحكم هم من لقّنوكم أنّ “الاستخراب” الفرنسي كان استعمارا وأنّ الاغتصاب والاحتلال والوصاية كان انتدابا وحماية…
أولئك هم من حكموا البلاد بالوكالة فأصبحت فرنسا صديقة وشقيقة وصاحبة الذّراع الطّولى في البلاد…
أولئك هم ” حكّام المناولة ” الذين كُلِّفُوا بالسّهر على مصالح فرنسا في هذه البلاد فأمّنوا لها امتصاص البقيّة الباقية من ثرواتنا وشفط ما تركته وراءها من مقدّرات وطنية…
واليوم…وبعد مرور كلّ هذه السنين من تاريخ دولة الاستقلال والبناء والاستصلاح والإعمار…ها أنّنا نكتشف أنّنا دولة مفلسة تعيش على الاقتراض والهِبات والعطايا… دولة تهين مربّيها وتُشَيْطِنهم ويُقتل خيرة أبنائها من العلماء والمخترعين برصاص الموساد في عقر دارها دون أن تحرّك ساكنا…دولة يتلقّى فيها الوزير تعليمات مباشرة من السّفير… دولة تُستباح فيها المدرسة العمومية بالحرق والتخريب دون حسيب أو رقيب…
أيّ معنى للاستقلال وهذا حالنا ؟!
أيّ معنى للاستقلال والكرامة وثرواتنا من فسفاط ونفط وغاز وملح.. تُشْفَط من نفس الغُزاة القدامى وشعبنا يعاني البطالة والفقر والمرض؟
أيّ معنى للاستقلال وجامعاتنا ومعاهدنا في ذيل ترتيب المؤسّسات التعليمية في العالم؟!
أيّ معنى للاستقلال وأبناؤنا تتقاذفهم مياه المتوسّط على قوارب الموت في اتجاه القارّة العجوز؟!
أيّ معنى للاستقلال والكرامة عندما تصبح تونس -التي وقف لها العالم إجلالا وإكبارا اثر كنس طاغيتها وثورتها من أجل الحرية والكرامة- تتلقّى الدروس وتخضع للإملاءات الخارجية وتطبّع مع رموز الطغيان وأباطرة الانقلابات في المنطقة؟؟؟!
أيّ معنى للاستقلال والكرامة الوطنية ونحن لم نقرأ وثيقة الاستقلال حتّى اليوم ولم يُكْشَف عنها حتّى اللّحظة؟!
أيّ معنى للاستقلال والكرامة الوطنية، و”هيئة الحقيقة والكرامة” تميط اللّثام عن وثائق اتفاقيات أُبرمت عام 1955 تتعلّق باستغلال فرنسا لكلّ “خبايا الأرض” من نفط وملح وماء وفسفاط وغيرها من الاتفاقيات ما زالت سارية المفعول وبشكل استعماري؟؟!
أيّ معنى للاستقلال والكرامة الوطنية، و”هيئة الحقيقة والكرامة” تكسف عن وثيقة فرنسية تؤكّد على ضرورة إخفاء الأرشيف المتعلّق بمعركة بنزرت عن الباحثين لسرّيته؟!.
نقول ذلك لأنّنا تعلّمنا أنّ الحقّ لا يُعْطى لمن يَسْكت عنه وأنّ علينا أن نُحْدث الكثير من الضّجيج حتى نحصل على ما نريد…
لقد أوهمونا كثيرا أنّ الدَّلْوَ ضاع وبقي الحبل… ولكنّنا نُعْلنها اليوم أنّنا لن ننتحر بحبلهم وأنّ الدّلو لم يضع وما زلنا ممسكين بطرفه.
رسالتي إلى أعداء الوطن ممّن امتهنوا تزوير التاريخ والاعتداء على الجغرافيا: إنّنا من الذين لم يبصقوا في نهر الوطن..إنّ في قوسي أكثر من وتر واحد… وإنّ الحجارة تصبح حيّة في المنحدرات.
فقط في ذكرى 20 مارس …لا عيد حتى ترضى أمّ الشّهيد.
وأنتم تعرفون من هي أمّ الشّهيد.
تحاليل | الجمعي الصحبي العليمي.