تحاليل| افتتاحية _ سلامٌ على وطنٍ أعلنَّاهُ جَيْبًا كبيرًا للفَقرِ والفُقراءِ | الجمعي العليمي
مساء الفقر يا وطني…
مساء القرى اليابسة، والوجوه العابسة، والتونسيين الذين تقطّعت بهم سبل العيش الكريم فوق ترابهم الوطني.
مساء الشّاهد على الشّاشات ضاحكا، ويتهيّأ بعد رفع الأسعار لرفع الضرائب، وبعد الضرائب لزيادة الرسوم، يمضي في طريق هندسته كريستين لاغارد رغما عن أنوف السكّان الأصليين والورثة الحقيقيين لهذه البلاد..
مساء الأحزاب، والكتل البرلمانية، والنوّاب، والمقرّبين الحاليين منهم والسّابقين واللّاحقين.
مساء سكرتيراتهم المتعاليات، والكراسي العالية، والأبواب المغلقة.
مساء المهمّشين، ومتظاهري الأحياء المنسية، ومن نَصَبوا الخيام على ضفاف جرحهم الوطني أولئك الذين منهم من يستدين ثمن الخبز، ويتدفّأ بأنفاسه الوطنية، ويأكل الهواء في وطن قضمه الفسدة، وصادروه من أهله الطيّبين.
مساء فواتير الكهرباء بعد الرّفع، والبنزين بعد الرفع الثالث، والمياه المكلكرة، والضرائب العالية، وقانون ضريبة المبيعات، وقانون ضريبة الدخل، والغلاء الذي داهم جيوبنا، وحفّاظات الأطفال، وحليبهم، وأقساط قروض البنك…. وبيض الدجاج.
مساء الضّيق والهمّ والحزن والحاجة، مساء المساكين على قارعة الوطن، وعمال الحضائر…
مساء الرّواتب المتدنّية، وبناتنا في حافلات الشركات يبحثن عن حلم وظيفة بأيّ راتب، وأبناؤنا العاطلون عن العمل منذ سنوات، ويتكدّس في داخلهم الألم، وفقدان الأمل، ويغدو الوطن صورة سوداء لأحلام أبنائه الموؤودة.
مساء الأساتذة القابضين على الجمر، الحالمين بمدرسة شعبية وتعليم ديمقراطي وثقافة وطنية، والعيش بكرامة في وطن يخذلهم يوميا وبين مواطنين كفروا بالعلم والتّعليم والمعلّمين وحكومة تُشَيطن المُدرّسين وتصنّفهم في خانة الأبالسة الملعونين.
مساء التلاميذ التّائهين الضّائعين، شباب تونس المتروك للأقدار وذئاب الشّوارع وتماسيح الإعلام …
مساء الخذلان يا وطني، ومن انتظروا هيكلة الرواتب ومراجعة الضرائب، وعادوا بخفّي حنين..
مساء معتّق برائحة الخديعة، والضّحك على ذقون التونسيين الذين ينتظرون الإصلاح.
مساء المصالحة والوحدة الوطنية، وحزمة الضمان الاجتماعي، وحمّة الهمّامي، وراشد الغنّوشي، والباجي قايد السبسي، وسعيدة قرّاش، وبن نتيشة، ووزارة التنمية والاستثمار، وأموال التعويضات، وصندوق التنمية الجهوية، وقوانين تشجيع الاستثمار، وبرامج التحوّل الاقتصادي والاجتماعي، والنمو بنسبة 5%،…
مساء السياسيين والمستشارين والعقود والفساد.
مساء مفعم بضيق ذات اليد، وانكسار أحلام الفقراء والجيوب الفارغة حتى من مصاريف الأطفال الضرورية.
مساء يعكس الانكسار في عيوننا…
مساء الشكوى والاحتقان والسّخط..
مساء مرّ بطعم البنزين، والغاز، والضرائب، والغضب على الوجوه السّمر الطيّبة.
فآآآآه يا وطني…
قد صحا الشّعب فيك على المصيبة الفادحة، وأطلّ على أيّام سود غائرة في الإذلال…
ففي وطني القرى تمتلئ بالفقراء، وبضع ولايات جنوبية استسلمت لسوء نصيبها، وجهات تنطفئ فيها الأعمار.
وأطفال صغار لا يعرفون طريق مستقبلهم، وسياسيون لئام ابتلعوا كلّ شيء، ومنزل أحدهم الفاخر بثمن بيوت قرية من قرانا المُهْمَلة، وورّثونا المليارات ديونا، وباعوا قطاعنا العام، واستولوا على المنح الخارجية، وأراضي المجموعة الوطنية باتت أراض شخصية لهم ولعائلاتهم، وتركوا على رؤوسنا مسؤولية رفاهية طبقتهم.
في وطني بؤس يصفع وجوه الملايين، وقهر استوطن صدورا لطالما افتخرت بحبّ التراب، ووجوه غائرة في الحظّ التّعيس، والتّونسي يبحث عن حلمه، ولا يجد إلّا السّراب، وشعب طيّب فَرَش القلبَ والدّربَ لأولئك الذين حرموه حقّ العيش الكريم، والتّونسيون يضربون كفّا بكفّ، ويندبون خساراتهم التي لا تعدّ، ويغمضون على الجرح، ويتحسّرون على سنوات الخداع، وإضاعة الحلم الوطني.
صرعى الفساد يستدينون ثمن الخبز، وبيوت كالحة وَجْبَة غذائها الرئيسية الخبز والماء، وطلّاب جامعات بلا منح ولا سكن ولا يعلمون كيف يكملون مشوار دراستهم. وعاطلون عن العمل مسكونون بحلم وظيفة بأيّ راتب، والآلاف من الشباب يُلْقُون بأجسادهم عرض البحر علّ الأمواج تقذفهم إلى الضفّة المقابلة، وبناة الأبراج…
فسلام على جرحك يا وطني…
سلام على الجيوب الفارغة والبطون الخاوية…
سلام على وطن أعلنّاه جيبا كبيرا للفقر والفقراء.
لقد اتسع الجرح يا وطني، وطاب موسم الموت، وبكت أوتار الربابة، وفاضت روح الأرض من ثنايا قلبك الحارّ، وقد ضيّع الفقراء في التّصفيق أعمارهم وحملوا من يأسهم رفاتهم، واتّشحوا بالتّراب العذب، والسّارقون لا يعطون النّاس نقيرا، وقرية تنام في الجفن أسهرتها رؤى الأماكن القديمة، وذكريات الكرامة، فلا يسلم حتى الخبز اليابس، والفقراء يُحْسَدُون على الأكواخ ولقمة الخبز التي في الأفواه.
فلله درّك يا وطني كيف جعلتهم يأكلون حقّ الفقير في بلد كلّه فقراء، وتمتدّ أياديهم ‘النجسة’ إلى بطون الجياع، ويصادرون التّعب المالح من جباه تغرق في العرق، وأيد يابسة، فلا يسلم الفقير من الأذى، ورياح الحكومات الغادرة تهبّ على صفو حياته فلا يهدأ طرفة عين.
ويتذاكى ‘الهمّل’ الذين لم يَسْقُوا تونس قطرة دم على عيش أصحاب الأيادي الطيّبة التي زرعت الخير في روح هذه البلاد، ويظنّون أنّهم يذلّون الأعزّة الأبرار ممّن سلفوا في صفحة مجدك يا وطني…
أبكيك يا بلادا عربية خرجت من صحراء الاستبداد كقطرة الندى، وتوزّعت في جيوب الخونة ودفاتر شيكاتهم، فقصورهم قبورهم، ونفوسنا مقاصل الحرية.
فيا بلد التّوافق والكتل والوزراء.. كيف حال أهالي تالة، وكيف ليالي السّمر في الرقاب، وكيف هي القصرين، والرديّف، وكيف هي قفصة، وبنقردان، ورمادة، والذهيبة، وهل ظلّ عِزٌّ في الجنوب، وعلى من في الشمال ستدور الدَّوائر؟؟
أين أضعت يا وطني من بنوا السهول والهضاب الشمّ فيك، وسقوك الدم الطّاهر، فمضيت تدبّ رحالك في الغربة وابتعدت، وطال بك المشوار؟؟ …لماذا ارتقت فوقك جِيَفٌ من فوقها جِيَف، ووجهك الوضّاء من أطفأ النّور في عينيه، من سرق الطّهر من سجادة صلاتك، من غيّر اللّهجة والكلمات العربية، من ملأ قلبك بكلّ هذا السّواد، من كرّهك فينا، ويريد أن يكرّهنا فيك، وبرغمهم ما غَادَرْناك وما غَدَرْناك ؟؟؟؟.
من غيّرك يا وطني فتنكّرت لبنيك، وكيف داسوا آثارنا فوق قلبك الطّاهر؟؟،
وهذه الأرض، المزروعة في الأرواح من اقتلعها والنّاس نيام؟؟؟.
قد اتَّسَع الجرح يا وطني، وغدا العيش حُلْوه حنظل، وجُرْتَ، وظَلَمْت، وتحوّل الكرام فيك إلى جِياع..
مُرَّة هي الحُلوق التونسية هذا المساء، والوجوه السّمر بات يغشاها الحزن العميق، وسِيقَت للحُتُوف الأماني، ويَدٌ تبطش بكلّ خير، وتمتدّ من خلف الظهور.