تحاليل _ تحاليل سياسية _ مطمور روما وكلفة اللّامغرب العربي. |بقلم: طارق القيزاني*.
كانت إحدى دعوات الدوتشي الشعبوية في ذروة الدعاية للنظام الفاشي خلال ثلاثينات القرن الماضي، تحضير إيطاليا لإعادة حوض المتوسط إلى حضيرة روما، كما كان عليه الأمر على مدى قرون في العصر الوسيط.
يغلب هذا الشعور على قطاع واسع من غلاة القوميين الإيطاليين حتى بعد عقود طويلة من سحل الدوتشي في الشوارع، بدءا من أصحاب القمصان السّود إلى رابطة الشمال الإيطالية المعادية للمهاجرين والإسلام، لكن يبدو أنّ رواسبه الثقافية امتدّت لتنحت كذلك جزءا من ذاكرة الجنوب المطلّ على المتوسط.
هناك دلالة تنطوي على مفارقة كبيرة في ما قاله وزير البيئة التونسي رياض المؤخر عندما كشف، بشكل استعراضي في إيطاليا، عن تفضيله التعريف بتونس على أنّها بلد يقع جنوب إيطاليا بدل القول إنّها تتوسّط الجزائر الشيوعية وليبيا المخيفة.
المفارقة الكبرى تكمن في أنّ تصريح الوزير الذي نزل مثل الصاعقة على الصحافة والمؤسسات الرسمية في الجزائر وليبيا، جاء من بلد مثّل على مدى قرون طويلة خصما عنيدا وعَدُوًّا لقرطاج العظيمة، مركز العالم قبل الميلاد. فأيّ شرف كان يتبجّح به الوزير من التموقع جغرافيّا حذو بلد طالما استنزف خيرات هذه الأرض إلى حدّ جعل منها مطمورا لروما.
نسي الوزير، أو ربما لا يعرف، أن جمهوريات العصور الوسطى والدساتير المكتوبة مدينة فقط إلى قرطاج، قبل أثينا وروما، بشهادة أرسطو في كتاب السياسة، ومن قبله أفلاطون. والأهم من ذلك أنّ الوزير نسي أيضا أنّ بيننا في تونس، وبين روما ثأرا حضاريا قديما.
الحرب البونية الثالثة التي كتبت عبر التواطؤ والخديعة نهاية مسبقة لقرطاج، لا تزال حتى اليوم يتردّد صداها في مجامع التأريخ والسياسة، بل إنّها في تقدير فقهاء القانون الدولي الحدث المفصلي الذي رسم أوّل ملامح العلاقات الدولية في حوض المتوسط بين الشمال والجنوب.
مؤسف أن لا يعرف الوزير “الروماني” هذا وغيره ولا يعطي قرطاج حقّ قدرها، ولكن تصريحه في كلّ الأحوال لا يختلف في جوهره عن حالة التباعد والتنافر بين دول الجوار المغاربي منذ سنوات طويلة تعكسها حالة التعثّر التي تعترض محاولات الاندماج الاقتصادي. المسافات السياسية والاقتصادية بين دول المغرب هي أبعد ما تكون عن بعضها البعض إذا ما قسنا على ذلك علاقاتها بدول الضفّة الشمالية.
70 بالمئة من المبادلات الاقتصادية لتونس مرتبطة مع الاتحاد الأوروبي إذ تأتي فرنسا كأول شريك تجاري خارجي لها بينما إيطاليا في المركز الثاني. ولا يختلف الحال مع الجزائر التي ترتبط بشراكة اقتصادية متقدمة مع فرنسا عن باقي الشركاء، برغم العلاقة المتأرجحة بين البلدين، في حين تحتفظ إسبانيا بمرتبة الشريك التجاري الأول للمغرب على مدى الثلاث سنوات الأخيرة.
مقابل ذلك، لا تتعدّى المبادلات التجارية بين أقطار المغرب العربي نسبة 2 بالمئة، وهي النسبة الأضعف عالميا إذا ما تمّت مقارنتها بالمبادلات القائمة بين دول باقي التكتلات الاقتصادية في العالم.
ليس هذا ما يتحدث عنه السياسيون في أقطار المغرب العربي. فقبل سنوات وفي غمرة الانتشاء بموجة الربيع العربي طرأ حديث مطنب في تونس بالذات بشأن كلفة اللّامغرب. لم يكفّ الرئيس السابق المنصف المرزوقي عن الحديث بشأن الآثار المترتّبة على تقاعس دول المغرب العربي في المضي قدما نحو بناء فعلي لحدّ أدنى من المؤسّسات الاتحادية، بل إنّه ذهب حدّ حصر هذا الهدف بأوليات خمس خصّص لها مجهودا دعائيا مهمّا للتسويق لها.
مهما تكن الخلفيات الدعائية التي حرّكت دعوات المرزوقي في فترة ما، فإن كلفة اللّامغرب بمؤسّسات الاتحاد المعطّلة ما فتئت تثبت بالفعل يوما بعد يوم أنّها باهظة، برقم يناهز 4 مليارات دولار مع خسارة نقطتي نمو سنويا، وأنها جريمة بحقّ الشعوب المتطلّعة إلى تكتل قوي بكل ما يتوفّر به من ثروات طبيعية هائلة وقوّة بشرية متناغمة وسوق استهلاكية واسعة.
أرقام مهمة تطرحها مراكز دولية متخصّصة من بينها البنك الدولي ومؤسّسة غلوبال فاير باور ووكالة الاستخبارات الأميركية، ترتقي لوضع دولة عظمى في حال بناء الفضاء المغاربي الموحد.
سيتيح مغرب عربي موحد مساحة تناهز ستة ملايين كيلومتر مربع ونحو 100 مليون نسمة وقرابة مليون و400 ألف من الأراضي الزراعية وأكثر من 60 مليار برميل من احتياطي النفط وستة تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز وأكثر من ربع إنتاج الفوسفات عالميا و250 مليار دولار من احتياطي الذهب والنقد الأجنبي.
سيمكّن مغرب عربي موحّد شعوب المنطقة من غطاء عسكري قادر على تغيير موازين العلاقات الدولية بجيش قوامه نحو 800 ألف جندي وأكثر من 2700 دبّابة و930 طائرة ومثلها أيضا من القطع البحرية.
لا تتحدّث المراكز الدولية في هذا عن مشروع هلامي لأنّه ثابت على الأرض ولا يفتقد سوى الإرادة ليصبح أمرا واقعا. لكنّ البناء المؤسّساتي يحتاج في ما يبدو إلى فهم سياسي أعمق واستيعاب أوسع للجغرافيا والفضاء المغاربي الممتد فضلا عن روابط التاريخ واللغة والدين وحتمية المصير المشترك إزاء كلّ ما يدور من حولنا من تكتلات.
ربما لا يحمل الوضع الحالي لمؤسّسات اتحاد المغرب العربي أيّ مؤشّر على تغيير محتمل على المدى المتوسط، لكن مع ذلك يظل هناك ضوء في آخر النفق، ظهر مؤخّرا مع إحياء قطار المغرب العربي بدءا من تونس إلى عنابة على أمل أن يمتدّ لاحقا إلى المغرب، يترافق ذلك أيضا مع تدشين المصرف المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية في تونس كأحد المشروعات المغاربية الطموحة والتي بقيت معلّقة منذ عام 1991.
ستكون للمصرف المغاربي أدوار مهمّة في تمويل المشاريع المتوسطة والصغرى في قطاعات الصناعة والخدمات والفلاحة وتعزيز المبادلات التجارية المغاربية المشتركة والارتقاء بنظم التكوين والتعليم، على أمل أن يدفع ذلك إلى إحياء باقي المشروعات المغاربية المعلّقة، فقط إذا توفّرت الإرادة السياسية.
——————————————————————
* كاتب تونسي.