تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ الهجرة السرّية.. محاصرة أسبابها في البرّ أم محاربة سماسرتها في البحر.
تاريخ الهجرة السرية يبدأ من اليوم الذي منع فيه الإنسان من حرية التنقل والاستقرار في المكان الذي يراه مناسبا لتحقيق حاجاته المعيشية والاجتماعية والنفسية والصحية والروحية وغيرها.
الهجرة -سـواء كانت طـوعية أم قسرية، سـرية أم علنية- ليست ظـاهرة ظـرفية مؤقتة تنشط وتتراجع أو ربما تتقلص وتختفي مثل الأمراض والأوبئة، بل هي ظاهرة مرتبطة أشد الارتباط بطبيعة الإنسان ونزوعه الدائم نحو التنقل والتجدد والاكتشاف والتطور.. هذا في حالات السلم والاستقرار، فما بالك أثناء الحروب والاضطرابات والأزمات الاقتصاديـة التي يعيشها عصرنا الراهن، إذ تفيد دراسات متخصصة في هـذا الشـأن بـأن نحو 40 في المئـة من مجموع السكان المهاجرين في العالم، قـد انتقلـوا، في الأصل، إلى بلد مجاور داخل منطقة منشئهم.
وبناء على هذا المعطى يصبح الحديث عن مكافحة الهجرة أو القضاء عليها ضربا من العبث ونوعا من محاولة إطفاء الحرائق بكوب ماء، والأجدر أن تفكر الدول وتعمل على التنسيق فيما بينها نحو الحد من الهجرة أو تقنينها وتنظيمها عبر اتفاقيات ثنائية وتهيئة أسباب الاستقرار في البلدان التي يأتي منها المهاجرون والمهجّرون.
بلدان كثيرة الآن هي بلدان منشأ وعبور ومقصد في آن واحد، وعليه فإنه لا بدّ من الإشارة إلى مفارقات تنشأ من صلب هذا الواقع المليء بالتناقضات، كأن تتذمر جماعة بشرية معينة من سوء المعاملة في بلد تتجه إليه، في حين يعامل أفراد هذه الجماعة نفسها مجموعة بشرية أخرى لجأت إلى بلدانهم بذات القسوة والازدراء كما يحدث مثلا في بلدان شمال أفريقيا وما رافق ذلك من ممارسات عنصرية ضد القادمين إليهم من جنوب الصحراء.
ترتفع وتيرة الهجرة السرّية نحو أوروبا بشكل غير مسبوق، وتمثّل فيها المنطقة العربية الطرف الأساسي سواء كمنبع لهذه الهجرة أو معبر أو هدف مؤقّت في انتظار هجرة أخرى نحو قارة أوروبا.
الأسباب كثيرة ومتشابكة في جعل العالم العربي (وبالتحديد مناطق العراق وسوريا وشمال أفريقيا) مصدرَ ومنبعَ هذه الهجرة التي لم تعد سرّية، لكن ما يجعل أجراس الخطر تقرع أكثر من أي وقت مضى هو حجم الكوارث وهولها فيما يتعلق بضحاياها.
لا يكاد يمر يوم إلا وتطالعنا الأخبار بصور جثث الغرقى والهالكين من مختلف الفئات العمرية وقد غامروا بحياتهم على متن قوارب متهالكة في سبيل الوصول إلى الضفة الأخرى وكأنها جنة الأحلام.
الأمر الذي لا بد من التنبه والإشارة إليه في طرح موضوع الهجرة السرية عربيا، هو ضرورة عدم السقوط في التعميم وتوحيد المقاسات بين بلد عربي وآخر، فمن يدفع السوري أو العراقي للهجرة السرية، ليس هو ذاته الذي يدفع التونسي أو المصري أو المغربي، ذلك أن الأسباب والدوافع تختلف بين تهجير قسري واضطراري بسبب الحرب وبين هجرة شبه اختيارية بهدف أو ذريعة تحسين الظرف الأسري والاجتماعي.
أمر طبيعي أن تخلق الهجرة السرية تجارة موازية وسوقا يتحكم فيها السماسرة والوسطاء من الضفتين، ولن تتوقف هذه السوق بمجرد التشديدات الأمنية وتشديد المراقبة والحراسة، ذلك أن الاختراقات توجد وتتنامى مع زيادة سنّ القوانين، لذلك تتفق كل الجهات الجدية وذات النوايا الإيجابية، على ضرورة تناول مسألة الهجرة السرية بالمزيد من الجدية والفاعلية والمسؤولية خدمة لكل الأطراف، وبعيدا عن المقاربات الأمنية التي لا تجدي نفعا، وكان الأولى أن تنفق التكاليف الأمنية في خدمة المشاريع التنموية.
تعزيز وحماية حقوق الإنسان يشكلان تحدياً ملحاً ومتنامياً في مجال حقوق الإنسان. وعلى الحكومات الأوروبية أن تلتزم بضمان ألا يتفشى هذا العنف القائم على كره المهاجرين الأجانب مثل حرمانهم من الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية كالحق في التعليم والصحة وغيرها من الحقوق المتعلقة بالكرامة الإنسانية.
أخيرا يمكن أن نساند المقاربات الأمنية من مراقبة وتنسيق وتأهّب دائم في عرض البحر من أجل حماية الأرواح البريئة، والمظلومة من تلك التي غرّر بها السماسرة من جهة وفتكت بها قسوة الواقع من جهة ثانية، لكن هذا ليس حلّا نهائيا وناجعا.
كما أن من حقّ الدول الأوروبية أن تحمي سيادتها الترابية، لكن من واجبها تحمّل المسؤولية في تأمين العيش الكريم لشباب كانت حكومات أوروبا بالأمس تستعمر أرض أجداده.