تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس وأهمية الاستقرار الوزاري. |بقلم محمّد كريشان.
دعا رئيس الحكومة التونسية السابق مهدي جمعة إلى الكف عما سماه «المهاترات السياسية» في بلاده والمطالبة بتغيير الحكومات كل ستة أشهر حيث اعتبر أن مسلسل تغيير الحكومات أضاع الكثير من الوقت خاصة عند إجراء المفاوضات والمشاورات في كل مرة لتشكيل حكومة جديدة.
ووسط أجواء يدعو فيها البعض إلى تغيير رئيس الحكومة الحالية يوسف الشاهد وتشكيل حكومة جديدة مقابل المطالبين ببقائه، رأى جمعة أنه يجب على الممسكين بزمام الدولة «تحمل مسؤولياتهم خلال العام المتبقي لهم في السلطة عوض الحديث عن تقييم الوضع في كل مرة مع أن الجميع يعلم أن الوضع كارثي». جمعة نفسه شاهد على هذا الكلام فهو واحد من سبع رؤساء حكومات عرفتهم تونس منذ الإطاحة بحكم بن علي في جانفي 2011، فمنذ ذلك التاريخ ترأس الحكومة كل من محمد الغنوشي، فالباجي قايد السبسي فحمادي الجبالي فعلي العريض فمهدي جمعة وصولا إلى الحبيب الصيد وأخيرا يوسف الشاهد. ومع أن البلاد مقدمة العام المقبل على انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتستعد هذه الأسابيع القليلة لأول انتخابات محلية منذ سبع سنوات، فإن هناك أصوات ترتفع هذه الأيام للمطالبة برحيل حكومة الشاهد سواء داخل قبة البرلمان أو خارجها حتى أن زعيم «الاتحاد العام التونسي للشغل» كبرى النقابات في البلاد وصف هذه الحكومة بأنها «حكومة تصريف أعمال».
مفهوم جدا أن يكون هناك نوع من عدم الاستقرار الحكومي في بلد تخلص من حكم استبدادي امتد لأكثر من عشرين عاما خاصة خلال المرحلة الانتقالية الأولى لكن بعد أن تم خوض أول انتخابات رئاسية و جرت ثاني انتخابات برلمانية أفرزت في كل مرة حزبا مختلفا يتصدر المشهد كان يفترض أن تعطى فرصة لأي حكومة أن تسير البلاد بالطريقة التي تراها بموافقة برلمانية على أن تتم محاسبتها بعد فترة كافية يكون منصفا الحكم فيها على أدائها سلبا أو إيجابا.
للأسف هذا لم يحدث في تونس بل وتحول الأمر إلى نوع من العقلية لا تتيح لأي كان أن يعمل بنوع من راحة البال، بل وتسارع مع أول إشكال أو أزمة إلى المطالبة برحيله أو استبداله. يبدأ هذا مع أصغر مسؤول مرورا بمديري شركات حكومية ومؤسسات كبرى وصولا إلى الوزراء و رئيس الحكومة نفسه. والنتيجة أن لا أحد خلال هذه السنوات السبع أخذ فرصته كاملة بحيث يكون من المشروع تماما وقتها تقديم جردة حساب تشيد بإنجازاته و تتوقف عند إخفاقاته.
لا يتسع المجال هنا للتوقف عند كل وزارة لنرى كم من وزير مر بها وكم مكث فيها، و لماذا أختير ولماذا غادر، وهل كان تعيينه على أساس الكفاءة أولا وأخيرا أم لحسابات سياسية بين الأحزاب لا تقيم وزنا كبيرا لاختيار الرجل المناسب لهذا المنصب أو ذاك. كذلك، لا أحد قدّر انعكاسات هذه التغييرات المتواصلة على موظفي كل وزارة الذين ينظرون إلى كل قادم على أنه لن يبقى طويلا وبالتالي لا موجب لبذل أقصى ما يمكن من الجهد لإنجاح تجربته و تنفيذ تصوراته.
يزداد الأمر سوءا عندما يتعلق بوزارات يفترض ألا تتعرض أصلا لوتيرة تغييرات مبالغ فيها لا يمكن إلا أن تترك أفدح الانعكاسات. مثلا، هناك الآن أزمة معقدة بين وزير التربية والتعليم وعموم مدرسي التعليم الثانوي وصلت حد تهديد هؤلاء بأنهم قد يحجبون تقييمات طلابهم إذا لم تقع الاستحابة لبعض مطالبهم النقابية. هذا الوزير هو الأخير في سلسلة من الوزراء مروا بقطاع التعليم في هذه السنوات السبع، وهو للمفارقة آخر وزير تربية في حكومة بن علي قبل رحيله، بمعنى قامت ثورة… وغادر رئيس… وتغير المشهد السياسي بالكامل… لنعود بعد كل ذلك إلى نفس المسؤول الذي كان اختاره بن علي لهذا المنصب!!
ليس هذا فقط، فمع كل وزير تربية جديد تتغير رزنامة العطل المدرسية وأحيانا أوقات العمل وأيامها فضلا عن هذا المقرر أو ذاك في هذه الشعبة التعليمية أو تلك ومعه نظام الامتحانات و تفاصيله. كل ذلك يحوّل قطاعا استراتيجيا كقطاع التعليم إلى حقل تجارب متحرك لا يستقر على وضع حتى يأتي ما يهزه، لا سيما أن الوزير الحالي جاء بعد وزير عمل المدرسون على ضرورة رحيله إلى أن رحل.
لنفكر قليلا ما الذي يمكن أن يحدث في وزارات أخرى لها علاقة بمقدرات البلاد الاقتصادية وعلاقاتها الدولية مثل المالية أو التجارة أو غيرهما، كيف يمكن أن يتناوب على حقائب بمثل هذه الأهمية وزراء لا يشعرون بأي حد أدنى من الأمان الذي يتيح لهم تقديم تصورات معينة للإصلاح أو مقترح مراجعات لتوجهات كبرى للوزارة أو البلاد، فضلا عما يحتاجه أي وزير جديد من وقت لمعرفة ملفات وزارته، ثم ما يهدر من وقت وموظفوه عارفون أنه راحل وأن الآتي بعده سيقع في نفس هذه الدوامة.
آن لهذا النوع من العبث أن ينتهي لتكون محاسبة رئيس الحكومة ووزرائه بدون اختلاق معاذير أولها أنه «لم يتركونا نعمل!!» للتنصل من أي مسؤولية أو محاسبة.
—————————————————————————————-
٭ كاتب وإعلامي تونسي