تحاليل _ تحاليل سياسية _ حزب النّداء وصناعة الإلهاء. |بقلم: الجمعي الصحبي العليمي
لم يعد إلهاء الشعوب مجرّد ألاعيب حاكم، بهدف إخضاع شعبه، يتفوّق فيها صاحب الدهاء… وإنّما أصبح صناعة يُخَطَّط لها وتُرْصَدُ من أجل نجاحها الأموال وتُقَام لها الدراسات والإستراتيجيات بعيدة المدى.
وتتعدّد مفردات الإلهاء ما بين إعلام فاسد وفنّ هابط وافتعال مشكلات اقتصادية واجتماعية بل وفتن طائفية بين نسيج المجتمع. ولعلّ أحدث مولود في مفردات الإلهاء ما يسمّى بالبرامج الحوارية اللاهثة عمّا يسمّى بالـ ” أوديمات ” …
ورغم مرور أكثر من 500 عام على طرح أفكار ميكافيلى صاحب المقولة الشهيرة “الغاية تبرّر الوسيلة في كتابه الشهير (الأمير) الذي أسدى فيه نصائح لكلّ ديكتاتور كيف يحكم شعبه… ومن وقتها أصبحت تلك الأفكار النواة الأهمّ لصياغة سياسات كاملة لفنون وإستراتيجيات إلهاء الشعوب.
ولأنّ الحكّام في كلّ مكان وزمان لم يتغيّروا على مرّ العصور، إذ كان هدفهم جميعا واحدا وهو البقاء في الحكم لأجل غير مسمّى، ومن أجل حفاظهم على هذا الحكم يرتكبون كلّ الجرائم المعادية لحقوق الإنسان ويبتكرون الحيل والألاعيب في إلهاء شعوبهم وصرف اهتمامهم وانتباههم عن قمعهم وظلمهم في الحكم. وهى ليست حيلا وألاعيب عربية فقط وإنّما سبقنا إليها طغاة الغرب. فغير خاف ما فعله “جورج بوش الابن” من إشعال الحروب في كلّ مكان من العالم للهروب من الشائعات التي أحاطت بانتخابه وما حدث به من تزوير ….ولا يزال كثير من حكّامنا العرب حتى الآن يسيرون على نفس النهج ويتفنّنون في خداع الشعوب ليلا نهارا.
وتتجلّى الظاهرة في عهد حزب النداء اليوم بقيادة رئيس حكومته يوسف الشّاهد حيث اختلق هاجس تراجع البلاد اقتصاديا وغرقها في المديونية لتبرير سياسية التقشّف وبيع القطاع العامّ للتغطية على فساد نظام الحكم في تونس طيلة ستّين عاما من حكم حزب الدستور ووريثه حزب التجمّع…
* “انتحار جماعي”
إنّ سياسية إلهاء الشعوب سياسة قديمة قِدَم الإنسان نفسه، حيث كان ملوك الفراعنة والممالك القديمة يُلْهُون شعوبهم بابتكار الأعياد والمناسبات التي يغدق فيها هؤلاء الملوك بالأموال أو مآدب الطعام بديلا لمشاكل البلاد الاقتصادية والسياسية أو في حالات كثيرة، كان يتمّ إخماد أيّ محاولات للانقلاب والتغيير والتخلّص من المعارضة بافتعال حروب خارج البلاد.
إنّ مقولة التاريخ يعيد نفسه مقولة صحيحة جدا وتنطبق على نهاية كلّ ديكتاتور، ولكنّ الحكّام العرب لم يتعلّموا أبدا من التاريخ خصوصا وقد مضت على جلوسهم فوق عروشهم ومناصبهم سنوات طويلة، وهم لا يريدون التخلّي أبدا عن كراسيهم أو صلاحياتهم المطلقة وعندما بدأت الشعوب العربية تتحرّك وهبّت رياح التغيير هنا وهناك، وجدناهم يرتكبون نفس الأخطاء في مواجهة شعوبهم ويطلقون عليهم نفس التهم والتفاهات كتلك التي قد أطاحت بالرئيس التونسي والرئيس المصري والرئيس الليبي و الرئيس اليمني ومازال الباقون منهم ينتهجون نفس الأسلوب مثل الرئيس السوري الآن، كما لو كانوا قد اتفقوا على الانتحار الجماعي، فتراهم يلجؤون إلى العنف الزّائد تارة والوعود بإجراء إصلاحات لا فائدة منها تارة أخرى. بل إنّ بعض الممالك العربية الخليجية انتهجت نهجا قديما مكشوفا مثل السعودية والكويت والإمارات فأغدقت على مواطنيها الأموال والمنح المغرية لإبعادها عن التفكير في القيام بالثورات ضدّهم.
* “استغلال الإعلام”
نجحت سياسة الإلهاء بشكل كبير في الدول النّامية أكثر من الدول المتحضّرة، وذلك بسبب الاستخدام المطلق للحكام لوسائل الإعلام وتبعيتها لهم في سياستهم للإلهاء وتضليل الشعوب، وبعدها عن رسالتها الأساسية في التنوير وتقديم المعلومات، على عكس الإعلام في الدول المتحضّرة وسماته في الاستقلالية والموضوعية وأهدافه في التعبير عن واقع المجتمع ومشكلاته.
إنّ صفوة المجتمع من مفكرين وسياسيين وبرلمانيين ضمن أسباب خضوع الإعلام الكامل لإرادة الحاكم، وعدم الوقوف أمام هذا الانجراف ومواجهته بالإضافة إلى سبل الحاكم القهرية لإجهاض أيّ محاولة لتوضيح الحقيقة سواء بالنّفي أو بالعزل وسط المجتمع وغيرها من أساليب بطش عديدة. فكان الإعلام و مازال الأداة الأهم في توجيهه الناس ناحية القضايا المُخْتَلَقَة والفزّاعات المتعمّدة وإبعاد الناس عن حقائق الأمور والبحث في تفاصيلها التّافهة.
إنّ أساليب إلهاء الشعوب من خلال وسائل الإعلام عديدة… فمنها التركيز على المباريات الرياضية وخلق فجوة بين مشجّعي الفرق والتفرقة بينهم كمشّجعي الترجي و الإفريقي أو الترجي و الساحلي أو الساحلي و الصفاقسي حاليا … وأحيانا خلق فجوة ومعارك وهمية بين الشعوب ، كقضية مصر والجزائر بسبب مباراة كرة قدم… و ما الأزمة المفتعلة بين النجم الساحلي والنادي الصفاقسي منذ أسبوعين إلّا دليلا على ذلك …فمباراة كرة قدم تكاد أن تتحوّل إلى حرب البسوس…!!!
* “الإلهاء بالإرهاب”
إنّ سُبُلَ الحاكم لإلهاء الناس عديدة… فقد يتعدّى الأمر إلى ابتكار مشكلة أو افتعال موقف لإثارة ردّة فعل معيّنة عند الناس بحيث يندفع الجمهور، مطالبا بحلّ يرضيه، كالسماح مثلا بانتشار العنف في بعض المناطق الحسّاسة أو تنظيم هجمات إرهابية دموية في أماكن بعينها حتى تصبح قوانين الطوارىء مطلوبة ولو حتى على حساب حرّية الآخرين.. أو خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحدّ الأدنى من الحقوق الإنسانية وتفكيك بعض الخدمات العامّة الحيوية، وبناء عليها يتمّ تقديم حلول مبرمجة لنا سلفا وواجبة القبول على أنّها شرّ لابدّ منه.. أو تمرير لإجراء أو قانون غير مقبول من الممكن أن يثير ثورة داخلية في البلاد، لو تمّ تنفيذه دفعة واحدة وتطبيقه بشكل تدريجي حتى يتمّ قبوله.
إنّ علم سياسة إلهاء الشعوب يتمّ تدريسه على المستويين الأكاديمي والسياسي لرجال الأمن وصانعي القرارات، ومن يقوم على تدريسه ويضع مناهجه ويقوم بتنفيذه هي جهة الاستخبارات في كلّ بلد. وإذا أردنا مثالا صارخا لذلك فلنتذكّر ما حدث عند غرق جندوبة وبوسالم منذ سنتين في مياه وادي مجردة وتركيز الدولة الكبير حينها وحشد عواطف الناس حول تصريحات الدكتور الطالبي في موضوعي الخمر والزنا لإلهاء النّاس عن هذا الحدث الجلل الذي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على سوء حكم البلاد والفساد المستشري فيه.
* “إستراتيجيات الإلهاء”
إنّ فنون إلهاء الشعوب كانت فعّالة في وقت سابق، أمّا الآن ومع الانفتاح الإعلامي فقد أصبح الأمر صعبا خصوصا مع تشابه آليات تلك السياسة في كلّ الدول والتي لخّصها حديثا المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” في عشر استراتيجيات للتحكّم بالشعوب وهى كالتالي:
1 -إستراتيجية الإلهاء بافتعال أزمات واختلاقها لتحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل المهمّة.
2 -إستراتيجية ابتكار المشاكل ثمّ تقديم الحلول.
3 -إستراتيجية التدرّج والتطبيق بصفة تدريجية.
4 -إستراتيجية المؤجّل وهى طريقة أخرى يتمّ الالتجاء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة للقبول.
5 -إستراتيجية مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار.
6 -إستراتيجية استثارة العاطفة بدل الفكر.
7 -إستراتيجية إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة.
8-إستراتيجية تشجيع الشعب على استحسان الرداءة.
9-إستراتيجية تعويض التمرّد بالإحساس بالذّنب.
10-إستراتيجية معرفة الأفراد أكثر ممّا يعرفون أنفسهم.
إنّ الشعوب العربية – ليست كما يصفها البعض – شعوبا عاطفية ولا تحكّم عقلها في مجريات حياتها، فالسنوات السابقة وأحداث الثورات أكّدت عكس ذلك في تفكير الشعوب المنظم وتحليلهم للأمور والأحداث ومواجهتها السياسية.
لذلك أرى دور الصفوة العاقلة مهمّا جدّا في توعية الناس والرأي العام لتفادى أيّ محاولة لخداعهم من قبل الحكام أو المستفيدين من إجهاض الثورات بالإضافة إلى دور الإعلام المسؤول الموضوعي الوطني في كشف المؤامرات التي تحاك ضدّ الشعب أو سبل إلهائه.
* “خيانة عظمى”
إنّ الإخلال من الحاكم بميثاق الشرف الذي أقسم عليه في أن يحافظ على الوطن ومصالح المواطنين هو جريمة خيانة عظمى تستحقّ العقاب السياسي والجنائي. لأنّ أيّ إخلال بمسؤولية أساسية تعهّد بها الحاكم أو موظّفوه، هو إخلال جسيم بمهامّ وظيفته في خدمة الشعب ومصارحته بالحقائق ممّا يؤدّى إلى مساءلته القانونية إذا حاول القيام بحيل الإلهاء عن المصالح العامّة أو المطالبة بالحقوق مقابل مصالح شخصية ومكسب فردى لهؤلاء الحكّام والقادة.
إنّ الحكّام الذين يعملون على تغييب عقول شعوبهم وإبعادهم عن المشاكل الحقيقية مقابل مشاكل وهمية يختلقونها كصراعات طائفية أو نزاعات حدودية أو فزّاعات إرهابيه يستحقّون عليها محاكمتين:
الأولى سياسية وعقوبتها العزل السياسي من المنصب.
والثانية محاكمة جنائية ويتمّ تحديد العقوبة بالحبس أو الإعدام حسب درجة الضرر الذي أصاب المجتمع من اختلاق المشاكل والأزمات والتي قد يصل بها الأمر لموت العشرات والمئات نتيجة لتلك الأزمات الوهمية.