التداخل بين الرياضة والسياسة ليس جديداً. فأحياناً، كان للرياضة تأثير في السياسة، وغالباً ما تهيمن السياسة على الرياضة. ورغم أن هذا التأثير قديم ومستمر، فإنه كان دائماً ينحصر في العلاقة بين الرياضة و”السياسة” بمعناها المبسط، أي العلاقات بين الدول، أو الارتباط بين الرياضيين والساسة المحليين، أو حتى التدخل في المباريات والبطولات لاعتبارات سياسية.
علاقات متداخلة
وشهد العالم أمثلة متعددة ومتوالية لتلك الأنماط من العلاقة المتداخلة. من أشهرها ما عرف بمباراة إذابة الجليد (في تنس الطاولة) بين الصين والولايات المتحدة في السبعينيات، ومثلها في الاسكواش بين الهند وباكستان. وداخلياً أيضاً، السياسة حاضرة، فكثيراً ما أفضى انتماء بعض الساسة أو المسؤولين إلى ناد معين أو رياضة بعينها إلى معاملة تمييزية لذلك النادي، أو اهتمام خاص من الدولة والإعلام بتلك الرياضة.
ومن الملاحظ أن مؤشّر التأثير والتأثّر بين الرياضة والسياسة كان يشير غالباً إلى تأثر الرياضة سلباً بالسياسة، خصوصاً في النطاق الداخلي. وتجلى هذا في حالات متعددة، من بينها ذلك التزامن بين تولي كبار المسؤولين، إدارة المؤسّسات والاتحادات الرياضية في البلدان العربية، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وتدهور نتائج المنتخبات والأندية العربية، في مختلف الألعاب، في البطولات القارية والعالمية، ثم التزامن بين انحسار تلك السيطرة السياسية على مؤسسات الرياضة، بدءاً من الثمانينيات، وفوز الأندية والمنتخبات ببطولات. على حين يعدّ التنافس التقليدي بين ناديي برشلونة وريال مدريد، في أحد أوجهه، مظهراً من مظاهر علاقات حرجة تاريخياً بين كاتالونيا ومدريد.
خارجياً، كانت التأثيرات واضحة في الاتجاهين (سلباً وإيجاباً). فكما كان اللجوء إلى المباريات الرياضية مدخلاً لتحسين العلاقات، أو كسر الجليد، استخدمت المقاطعة الرياضية أيضاً للتعبير عن موقف سياسي. فمثلا، قاطع عدد كبير من الدول الغربية وحلفائها دورة الألعاب الأوليمبية في موسكو 1980 احتجاجاً على الغزو السوفيتي لأفغانستان.
هذا النمط من العلاقات البسيطة بين متغيرين أو مسارين فقط بدأ بالاختفاء تدريجياً لمصلحة علاقات أكثر تعقيداً تجمع أكثر من متغير، وتتداخل فيها مسارات متعدّدة، تشمل إلى جانب الرياضة كنشاط إنساني، أو خدمي، التجارة، والتسويق، والإعلام، والتوجّه السياسي لعناصر المنظومة الرياضية. تلك المسارات دخلت بدورها في أتون التغذية المرتدة لتفرز ظواهر وأنماطاً أخرى مغايرة.
اشتباك متعدد:
على خلاف النمط السائد منذ زمن طويل، بدأت العلاقة بين الرياضة والسياسة في السنوات الأخيرة تتسع وتتنوع، فصارت علاقة تفاعل متبادل، ليس فقط مع “السياسة” بمعناها الضيق المتعلق بالحكم وإدارة الدولة والمسؤولين رفيعي المستوى، لكن أيضاً مع مختلف مكونات ومفردات الحياة العامة في البلد. فصارت الرياضة جزءاً أصيلاً من “المجال العام” تتفاعل مع بقية العناصر فتؤثر فيها، وتتأثر بها.
وتبلور ما يمكن تسميته “اشتباكاً قطاعياً” بين الرياضة وقطاعات معينة، خصوصاً الاقتصاد بقطاعاته الفرعية المتعددة. فمثلاً، لم يعد من المتصور الحديث عن أي قطاع من الرياضة، دون اقترانه بجوانب تتعلق بالدعاية والتسويق. فقد أصبحت الإعلانات التجارية صنواً للرياضة بمختلف مراحلها، بدءاً بممارستها (ملابس وأدوات اللاعبين)، مروراً بالمتابعة (الإعلان في الملاعب والفضائيات)، وانتهاء بالنواحي الإدارية والتنظيمية (رعاية البطولات وتقديم الجوائز).
لعب هذا الاشتباك دوراً جوهرياً في تزايد أهمية الرياضة، وتحولها من خدمة ترفيهية إلى “صناعة” بما يعنيه ذلك من مقومات ومقتضيات. ولا يزال هذا التوجه يتنامى ويتطور. فمثلاً، لم تعد الأندية تعامل كمؤسسة خدمية لأعضائها، وإنما أصبحت شركات تعمل وتدار بمنطق اقتصادي بحت، مثل أيّ مشروع صناعي/تجاري. لذا، لم يعد من المستغرب أن تباع الأندية الرياضية لرجال أعمال، وأن يديرها رجال الاقتصاد والأعمال، وليس خبراء الرياضة.
ومن الأمثلة الشهيرة على تأثير الاقتصاد والعوامل التجارية في الرياضة ما يحيط بعملية اختيار “أحسن لاعب” كرة قدم، خصوصاً في آسيا وإفريقيا، حيث يندر فوز لاعب مسلم باللقب، مما فسرته بعض التحليلات والتسريبات بأن النتائج النهائية تتأثر بنفوذ شركات الدعاية والإعلان التي تخشى أن اللاعبين المسلمين يرفضون الدعاية لشركات السجائر والكحوليات.
أدوار جديدة للجمهور والإعلام:
في سياق العلاقة بين أطراف ومكونات المنظومة الرياضية، تحولت أوزان وأدوار بعض تلك الأطراف بما انعكس على مجمل المنظومة، وبالتبعية على العلاقة التفاعلية بين الرياضة والمجال العام.
أول، وربما أهم، ملامح التحول في أطراف العملية الرياضية هو تزايد أهمية “الجمهور” كواجهة ورمز للرياضة وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها. فإلى ما قبل عقد واحد، كان الجمهور هو الطرف “الأضعف”، أي الأقل تأثيراً وأهمية، سواء في الرياضة ذاتها، أو في تفاعلها مع المجال العام، وذلك حتى بدأت جماهير الرياضة تتخذ لنفسها صبغة تنظيمية، وتشكل كيانات منظمة تعبر عنها، وتشرف على حركتها، وهي تلك الكيانات التي حملت اسم “ألتراس”. فقد مثل ظهور تلك الكيانات المنظمة نقلة مهمة على مستويي العلاقة بين الجمهور وبقية أطراف المنظومة الرياضية، ثم على مستوى تأثير ودور ووضعية الرياضة في الشأن العام بالبلد.
غير أن نشأة كيانات منظمة للجمهور لم تبدأ مع ظهور روابط “ألتراس”، فقد سبقها بعقود تشكيل جماعات لجماهير بعض الأندية الرياضية حملت اسم “رابطة مشجعي نادي…”، وكان الهدف من إنشائها التعبير عن آراء ومواقف ومطالب جماهير النادي، خصوصاً فيما يتعلق بالمباريات والنواحي الفنية. كما كانت تلك الروابط تقوم بدور تنظيمي في حضور ومتابعة الجماهير للمباريات والتدريبات.
التحول الحقيقي كان في طبيعة ونطاق الدور الذي تلعبه روابط المشجعين، فقد نشأت روابط جديدة أكثر تقدماً من تلك القائمة. ولعل المسمى الذي أطلقته تلك الروابط على نفسها يوضح طبيعة ذلك التقدم. فقد حملت تلك الروابط اسم “ألتراس” في رمزية إلى التطرف والشدة التي تميز تلك الروابط، ليس بالضرورة في اتجاه العنف، وإنما بمعنى المبالغة التي قد تصل أحياناً بالفعل إلى حد العنف.
أدى ظهور الألتراس إلى توسيع نطاق اهتمام وحركة المشجعين، فبدأ يشمل مختلف مناحي المنظومة الرياضية الخاصة بلعبة معينة، أو بمختلف الألعاب في ناد معين. ثم فرضت الصبغة التنظيمية والطابع الجماعي لتحركات الألتراس نفسهما على مواقف تلك الروابط من الأحداث السياسية والشأن العام كجزء من حالة الحراك والزخم الشعبي التي بدأت عام 2011 بالتزامن مع موجة الاحتجاجات والثورات الشعبية التي عرفت مجازاً باسم “الربيع العربي”.
وهكذا، طرأ تحول خطير على وضعية أحد أطراف المنظومة الرياضية (الجمهور) من زاويتين، الأولى أهمية هذا الطرف، حيث أصبح الرقم الأهم في المعادلة الرياضية أولاً، ورقماً مهماً في المجال العام ثانياً. الزاوية الثانية أنه لم يعد كياناً تنظيمياً شعبياً رياضياً فقط، وإنما صار أحد الكيانات الشعبية السياسية. ومن ثم، خرج الجمهور بالرياضة ككل إلى ساحة “السياسة” بمعناها الواسع. وكان لذلك التطور الجوهري انعكاسات على تعامل أهل السياسة مع الرياضة ومكوناتها، خصوصاً ذلك العنصر الذي تحول إلى فاعل سياسي بامتياز.
التغير الثاني المهم في وضعية وتأثير أطراف وعناصر المنظومة الرياضية ذلك التنامي المذهل في تأثير الإعلام، ودوره الفعال تجاه الأحداث والتطورات، سواء الرياضية أو السياسية. فصار الإعلام طرفاً في التطورات، ليس فقط من باب التغطية والمتابعة، لكن أيضاً بالتوجيه والتأثير. والواقع أن هذا التطور في تأثير الإعلام الرياضي ليس حديثاً، فهو يتنامى باطراد منذ عدة سنوات، وتحديداً منذ أزمة مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم لكرة القدم لعام 2010.
غير أن السنوات القليلة الماضية شهدت مزيداً من التطوّر في هذا الاتجاه بما جعل الإعلام ليس مجرد أداة نقل للأحداث، أو متابعة للأزمة، وإنّما فاعل أساسي في الأحداث، بل ربما أحياناً أحد عوامل تفجير الأزمة، وهو ليس أمراً مقصوراً على الرياضة، فتطوّر دور الإعلام يشمل مختلف مكونات المجال العام، وما الرياضة إلّا واحدة من البقاع التي طالتها أذرع الإعلام بسحرها ونفوذها.
تحولات جذرية
في ضوء ما سبق، لم يكن من المستغرب أن تشهد العلاقة بين الرياضة والسياسة تحوّلات مهمّة، بل وجذرية، في سنوات قليلة. ولم يكن من المفاجئ أيضاً أن تتكشف فضائح فساد مالي وإداري في كبرى المؤسسات الرياضية في العالم (الاتحاد الدولي لكرة القدم – FIFA).
فقد كشفت الفضائح المالية للاتحاد الدولي لكرة القدم مثلا عن عمق التشابكات، وتعقد العلاقات والمصالح بين مختلف أركان المنظومة الرياضية في العالم، سواء على المستوى الدولي والقاري، أو على مستوى الاتحادات الوطنية، خاصة أن بلاتر نجح، خلال رئاسته التي استمرت ستة عشر عاماً، في تحويل الفيفا إلى إمبراطورية اقتصادية، وشبكة مصالح متداخلة بين شركات الدعاية والتسويق، ومؤسسات البث التليفزيوني، ومصانع المنتجات الرياضية، مع الاتحادات القارية والمحلية، والمسئولين عن إدارة كرة القدم فيها.
ورغم أن قضية فساد الفيفا لم تتكشف أبعادها كاملة بعد، فإن الأمر على ما يبدو أبعد من مسألة الامتيازات الإعلانية، أو منح بعض المشروعات الرياضية لشركات معينة، إلى غير ذلك من مسائل تظل اقتصادية في طبيعتها وتأثيرها. فقد تعلقت بعض التسريبات بفساد شاب بعض الاستحقاقات الرياضية، مثل عملية اختيار الدولة المنظمة لكأس العالم عامي 2018 و2022، بما يستتبعه ذلك من دلالات وانعكاسات تتعلق بعودة روسيا كقوة عظمى عالمياً، وبصورة قطر كدولة صغيرة ذات دور ومكانة كبيرين إقليمياً.
وهكذا، يبدو واضحاً أن شمول وتوسع نطاق العمل الرياضي، وتداخله مع مختلف أنشطة ومكونات المجال العام، يغطي العالم بمستوييه: العالمي فيما بين الدول وبعضها بعضا، والداخلي في المجال العام لكل دولة. لكن الدلالة الأعمق في كل ذلك أن العالم لم يعد يدار بأداة واحدة، ولا يتأثر بمجال واحد دون غيره. فلم تعد السياسة أهم من الاقتصاد، ولا الرياضة مجرد نشاط إنساني ترفيهي تماماً، كما لم يعد الإعلام مجرد أداة لنقل المعلومة. فقد أصبحت الحياة الإنسانية متكاملة ومتداخلة بين كل هذه المجالات، التي امتزجت بدورها معاً، فزاد كل منها أهمية وقوة، عبر الارتباط والتشابك فيما بينها، تأثيراً وتأثّراً.
————————————————————————————-