تحاليل _ تحاليل سياسية _ ‘التركوفوبيا’.. العقل السياسي التركي وتوسيع المعركة. |بقلم: عبد الجليل معالي.
لا شكّ أنّ كلّ خطاب سياسي يكون حذرا عند استخدامه لمصطلحات أو مفاهيم تخصّ مجموعات بشرية كبرى سواء في الوصف أو في الدفاع أو في الإدانة، لذلك يجنح أغلب الساسة إلى التنسيب في صنع وابتكار المفاهيم والمصطلحات. ساد مؤخرا مصطلح اتصل بالخصومة التركية الأوروبية، وما تخللها من حرب تصريحات بين القادة اليمينيين الأوروبيين وبين رجب طيب أردوغان بالذات. مصطلح التركوفوبيا استعمله الرئيس التركي بنفسه، مثلما استعمله العديد من الكتّاب الأتراك، وحتى من يدور في فلكهم من العرب المسلمين. المصطلح المشار إليه يذكر أولا بالإسلاموفوبيا ويستعير مجالها، ويعمد ثانيا إلى خلط يفضي إلى الإيهام المتعمد بأن تركيا حاملة لواء الإسلام والمسلمين، وهو لا شك خطاب يتعمد ابتكار جبهة جديدة للخصومة لا تؤدّي إلّا إلى إضافة حطب جديد على نار الإسلاموفوبيا المتقدة أصلا.
استعمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كثيرا مصطلح “التركوفوبيا” في الفترة الأخيرة، “أوروبا تغرق سريعا في مخاوفها، “التركوفوبيا” تتزايد ومعها الإسلاموفوبيا. نأمل أن يرى الأوروبيون الحقيقة وان يلقنوا الأحزاب والحكومات العنصرية درسا..”. على أن المصطلح (وهو مصطلح قديم) كما يبدو راق للأتراك القريبين من أردوغان وحزبه فأصبح يتداول بشكل واسع.
المثير في أن مصطلح التركوفوبيا يذكّر للوهلة الأولى بالإسلاموفوبيا، بل يصر ناحتوه على دمج المصطلحين معا، مثلما فعل أردوغان، ولعل وراء مزاحمة “التركوفوبيا” للإسلاموفوبيا في الاستعمال وفي التوظيف، عقل ماكر يدركُ أن للخلط بينهما محاصيل وافرة.
جدير بالتذكير أن مصطلح الإسلاموفوبيا، لم يثر ما أثاره التركوفوبيا من استياء. المصطلح الأول يكتسب وجاهة فكرية وسياسية قادمة من عاملين. العامل الأول كامن في أنه ثمة إجماع على رفض الإدانة الجماعية للمسلمين وتحويلهم إلى متهمين مؤقتين، وأن فعل مجموعة متطرفة محدودة عددا وتأثيرا لا يجب أن ينسحب على عموم المسلمين وبالتالي فإن الخوف من الإسلام والمسلمين لا مبرر منطقيا له. العامل الثاني الذي يسبغ المزيد من الوجاهة على مصطلح الإسلاموفوبيا هو أنه لم يصدر ولم يتم نحته في الفضاء العربي الإسلامي، أي أنه ليس مشوبا بعقلية الضحية أو بخطاب المظلومية. المصطلح نحتته خلية تفكير بريطانية (مجموعة خلية تفكير اليسارية البريطانية في العام 1996) وعرفت الإسلاموفوبيا بكونها “نظرة إلى العالم تنطوي على كراهية ومخاوف لا أساس لها ضد المسلمين، تؤدي إلى ممارسات تمييزية وإقصائية”.
التركوفوبيا أو رهاب الأتراك كما استعمله الرئيس التركي في معركته الأوروبية الجديدة، لا يكتسب هذه المصداقية الفكرية والوجاهة السياسية، بل إن العقل الذي توصل إلى تشييده كعدّة مفاهيمية لازمة في معركة أردوغان السياسية الجديدة، لم يتبيّن خطورته وخطره على الأتراك وعلى المسلمين.
بذل ناحتو مصطلح التركوفوبيا، جهدا فكريا وتضليليا كبيرا لإخراجه ولبيان أن تركيا تتعرّض لحملة أوروبية “مسعورة”، لكن المصطلح ينتقل بخفة من مجال الاختلاف السياسي العادي والمشروع والمعتاد، إلى تحويل الموقف الأوروبي اليميني من تركيا وحكومتها ورئيسها إلى خوف من الأتراك، مع إضافة حواشي مفاهيمية إلى المتن الأصلي. المتن هو التركوفوبيا والحواشي هي المصطلحات التي يواظب أردوغان وصحبه على استعمالها من قبيل قوله إن “محكمة الاتحاد الأوروبي، محكمة العدل الأوروبية يا أخواني، بدأت حملة صليبية ضد الهلال المسلم”. أو قوله إن “أوروبا تعود بسرعة إلى أيام ما قبل الحرب العالمية الثانية”.
تحويل المصطلح من فضائه السياسي إلى الفضاء الحضاري، إضافة إلى أنه صنع بعقل تركي محض يفقد المصطلح كل وجاهة ممكنة، بل ينقله إلى مجرد أداة من أدوات الخصومة، لكن خطورته أكبر من التسرّع الذي فرض ضرورة استعماله والاستنجاد به من رفوف الكتابات القديمة.
المصطلح يجنح إلى صنع جبهة موازية، إلى المعركة القائمة أصلا، والتي تخوضها دول ومؤسسات وهيئات ومنظمات إسلامية، للتقليل من آثار الإسلاموفوبيا ولتبديد الصلات بين الإسلام والإرهاب. الجبهة الموازية هي للإيحاء بوجود تناص بين الإسلاموفوبيا والتركوفوبيا، وللإيهام بأن معركة النظام في تركيا مع أوروبا، هي حرب تشنها أوروبا على المسلمين.
الخلط بين الإسلام وتركيا، ينطلق من مركزية فكرية قوامها أن تركيا هي حاملة لواء الذود على المسلمين، وهي مركزية تصدعت مؤخرا بفعل مواقف أردوغان من إسرائيل وتناقضات مواقفه في المسألة. والخلط أيضا ينبع من عقلية تسعى إلى حصد أكثر ما يمكن من تعاطف المسلمين مع تركيا ضد “الفاشية الأوروبية”، وهو ما يعني أيضا سعيا أردوغانيا لتعميم الخسائر وخوصصة الأرباح.
في المصطلح أيضا شيء من التاريخ، إذ عمد أردوغان في السنوات الأخيرة إلى تكرار استدعائه للتاريخ، وتوظيفه لإشارات من قبيل الإمبراطورية الإسلامية والدولة العثمانية والأجداد العثمانيين وغيرها. في تقرير ورد في وكالة انباء تركية رسمية صدى لخطاب أردوغان التاريخ، حيث كان التقرير الذي يثير بدوره مصطلح التركوفوبيا يحاول نقد الموقف الرافض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بالقول “ويبدو أن قبول انضمام تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان، إلى الاتحاد الأوروبي، أمر شبيه بفتح فيينا أبوابها أمام السلطان العثماني سليمان القانوني”.
الخلاف التركي الأوروبي الأخير هو خلاف سياسي صرف، بين نظام سياسي تركي قائم وأحزاب يمينية أوروبية. وهو خلاف لا يحتمل نقله من هذه الجهة أو تلك إلى فضاء آخر خارج هذا التوصيف. واستعمال مصطلحات من قبيل “التركوفوبيا” لن يفيد في هذا الخلاف بل سيزيد من استعاره.
التركوفوبيا يقدّم الخلاف على انه خلاف بين مسلمين أتراك، ومسيحيين أوروبيين، ويصنع تعميما متعمدا على كل أطراف الخلاف، بل يستدعي الجميع إلى المعركة. وفضلا عن الدواعي الكامنة وراء نحت المفهوم (المركزية التركية والسعي المتعمد للخلط بين الأتراك والمسلمين وتقديم تركيا على أنها رافعة لواء الذود عن الإسلام) فإن آثاره أكبر من أن تحصى، لأن المتقبل لهذا المفهوم الذي بدأ يتخذ رواجا لدى الأوساط التركية والقريبة من الرؤية التركية، خاصة مع كثرة ترديده من قبل شخصيات سياسية وفكرية على حد السواء، سيصنع عنده انطباع أنه ثمة فعلا رهاب أوروبي من الأتراك مترتب بدوره عن الرهاب من المسلمين (الإسلاموفوبيا).
صحيفة الموندو الإسبانية أشارت في تفاعل لها مع المسألة في شهر مارس الماضي إلى أن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو نفسه من يقوم بتعزيز فكرة الإسلاموفوبيا في الغرب بأسلوبه السلطوي”. والتركوفوبيا هي إحدى أدوات هذا التعزيز.
مصطلح يهدد مصالح المسلمين والأتراك في أوروبا ويضعهم في دائرة الضحايا المفترضين لمعركته السياسية، ويكرّس عندهم ثقافة المظلموية، ويحوّل معركته السياسية (الدخول إلى الفضاء الأوروبي أو على خلفية منع طائرة وزير الخارجية التركي من الهبوط في مطار هولندي أو حتى رفض بعض الأحزاب والمنظمات الاوروبية لاستفتاء يعتزم تنظيمه لتوسيع سلطاته) إلى إسلاموفوبيا وتركوفوبيا، أي إلى موقف أوروبي عام من الإسلام والمسلمين عموما.
التركوفوبيا إضافة ماكرة لحطب تركي إلى نار الإسلاموفوبيا.