تحاليل _ تحاليل سياسية _ ليبيا.. متى تدفن جثّة القذّافي ليتحوّل هذا التراب إلى وطن؟. |بقلم: صلاح علي إنقاب.
وهل الوطن شيء آخر سوى مفهوم التعايش السلمي المشترك بين ساكنيه؟ سؤال لن تستطيع الجموع الليبيّة الإجابة عليه منذ تحول الشعب الى نصفين كل نصف مقسم الى أجزاء أصغر، نصفٌ ينتظر من جثة العقيد أن تبتسم، و نصف آخر يخافها أن تستيقظ لتنتقم من الجميع.
السلام عليكم:
أهو وطنٌ أم تراب؟ فليبيا اليوم لم يتغيّر فيها شيء منذ اكتشاف النفط مروراً بثورة العقيد، وصولا الى دولة الثوّار ، لم يتغّير شيء البتّة والجميع يحاول أن يلبس حذائه فوق رأسه ليثب للآخرين أنه أطول قامة منهم جميعاً، فالليبيّون اليوم ليسوا مواطنين كعادتهم، سابقا كانوا شعباً وقائداً، والكثير من القبائل الصابرة بالصمت، الكثير من آبار النفط المشتعلة من أعلاها، أما اليوم فهم شعوبٌ منقسمة كأنواعٍ وفصائل، قبائل متناحرة، عدد لا بأس به من القادة، وآبار نفط مشتعلةٌ من الأسفل.
ليبيا ليست شخصاً واحداً، وهي ليست هذا الجيل أو الأجيال التي سبقت، ليبيا هي الأجيال القادمة فقط، و إذا لم يجد هؤلاء وطنا فإنهم سيغادرون قطعة التراب هذه أو سيقومون ببيعها، الأمر بهذه البساطة، حقيقةٌ تجبرنا إلى إلغاء فكرة إلصاق أي إسم آخر بها، الدولة بطبيعتها مؤسسّة تقدم الخدمات للمواطنين يعمل المواطنين على حمايتها و الحفاظ عليها وفق مبدأ بسيط ألا وهو ( الملكية المشتركة) ، وعندما تحمل اسما آخر جانب اسمها فهي هنا تلغي فكرة أنّها دولة كل المواطنين، الدولة ليست كائنا حيّاً لكي يكون لها دينٌ أو قوميّةٌ أوأيديولوجيا لأنها حينها ستكون كما هو حاصل اليوم ( كياناً مصطنعاً ) ، فمواطنوها يستحيل أن يكونوا يدينون بدين واحد بتصوّرٍ واحد ، أو ينتمون لجماعة عرقية أو قومية واحدة أو أن يكونوا ذكوراً فقط أو إناثاّ فقط، أو يحملون الشعور بالإنتماء لأيديولوجيا واحدة، وهنا يكمن الخلل الذي بدأ منذ بدء الجميع في لبس الأحذية فوق الرأس .
الأرض سابقة للإنسان، وملكية الأرض لم تنشأ إلا بعد ظهور فكرة الإنتاج والمنفعة من العيش فيها، فالناس لا يشكلون شعبا بسبب مكان الميلاد فقط، بل بفضل فكرة قبول التعايش والمشاركة في الإنتاج فوق أرض محدودةٍ بقوانين إدارةٍ عادلةٍ قبل كل شيء، ليبيا ليست وطنا لأن من يسكنونها يسمّون أنفسهم أسماء عديدة قبل كونهم ليبيّين، فليبيا لا تأتي أولاً عندما يعرّف من يحملون جواز السفر الليبي الأزرق أو الأخضر بأنفسهم، فهم عرب أولاً، بربر أولاً، سلفيون أولاً، مالكيّون أولاً وهلم جراً نحو كل الهويات الزائفة الأخرى من الثوار وصولاً إلى السماسرة مروراً بمزدوجي الجنسيّة، وكلهم يرون ليبيا تراباً مبلولاً بالنفط لا وطناً ممكناً لهم جميعا، كياناً مصطنعا لم يستطع حتى إحتواء القبيلة ووقوفها عند حدود لقب العائلة، والتي هي أبسط أشكال التجمعات البشرية، ليبيا تعيش عصر العولمة من الخارج وشعبها يستمر في توريث التراب، وفقط التراب للأجيال القادمة.
لكن ما هو الحلّ؟
الحلّ غير ممكنٍ دون دفن جثّة القذافي، وهذه مهمّة صعبة بالنسبة لشعوب تعاني نوستاليجا مرضيّة، وعي مفارق للزمان يخبر أصحاب الهوية القومية أن ليبيا القذافي هي النموذج المثالي لحكمها، وأصحاب الهوية الدينية أنّ عمر الخطاب النموذج الديمقراطي الوحيد في ذاكرة مذهب السنّة أو عمر بن عبد العزيز في الذاكرة الإباضية هو الأولى بذلك، وهذا يجعلنا مجبرين على محاولة دفن جثّة عمر بن الخطاب أيضاً، وبعد ذلك سيكون من السهل العودة إلى العصر الحالي عندما تختفي من مخيال شعبنا الليبي العظيم فكرة المؤامرة، وأنّ دور هذا الشعب تحرير العالم من الإمبيراليّة و الصهيونية العالمية، ليتجهوا نحو صناعة السلام داخل التراب الليبي والذي سيصبح حينها وطناً، يملأ الصيادون قواربهم بأسماك خليج سرت قبل أن تموت بسبب الشيخوخة، ويفتح الليبيون الباب أمام المسيحيين للحجّ إلى كنيسة مرقس في برقة أو الباحثين عن تركة البابا الإفريقي فيكتور الأول ، ودعوة الألمان وسكان اسكاندينافيا لزيارة الصحراء الكبرى لتغيير لون بشرتهم، وخلق جسر برّي بحري يربط بين جنوب الصحراء الكبرى وشواطئ لمبادوزا لا للهجرة غير الشرعية للفارّين من جحيم الفقر والفساد في إفريقيا، بل ليقوموا ببيع رمال الصحراء نفسها وشمسها الحارقة لمن يعرف ماذا يمكن أن يفعل بها شمال المتوسط، حينها و حينها فقط وعندما تصبح ليبيا وطنا للأفراد لا للجماعات والقبائل واللوبيات الوهميّة والفاسدة، وطنا يعامل فيه اليهودي معاملة المسلم، والبربري معاملة العربي، والمؤمن معاملة الغير مؤمن، والشيوعي معاملة السلفي، يمكننا القول بأنّ ليبيا أصبحت وطناً، كلّ هذا بعد اتخاذ قرار حرق آبار النفط أو إقفالها على أحسن تقدير، أما أن يستمر الأمر كما هو عليه منذ خمسين عاماً فإنّ ليبيا لن تكون إلّا ترابا ليس لأحد الحقّ في طلب الأجيال القادمة الدفاع عنه أو الإحساس به، ليسير الجميع حفاة بعد أن خسروا رؤوسهم التي كانت تحمل أحذيتهم فوقها.