تحاليل _ تحاليل سياسية _ أمراض اليسار: العودة إلى حظيرة الطوباوية. بقلم: أبو بكر العيادي*.
مرّ اليسار حيثما كان بأزمة ما انفكت تستفحل على مرّ الأعوام، إلى أن تحولت إلى داء ينهش كيانه ويهدد بتقويضه، هذه الأزمة، في نظر المحللين، ليست انتخابية فحسب، بل أيديولوجية وثقافية وفلسفية أيضا، بعد أن غدت مبحثا ينكبّ على دراسته المفكرون وتتناوله المجلات الفكرية بالنظر والتأمل على غرار مجلة “فلسفة” الفرنسية، التي خصصت في عددها الأخير (فبراير 2017) ملفّا دعت إليه أهل الذكر لتطارح أسباب تراجع اليسار في سائر أنحاء أوروبا وحتى في أميركا، والإجابة عن السؤال: “ممّ يعاني اليسار؟” وإن شئنا الدقة “أي مرض أصاب اليسار؟”.
يذهب بعض المساهمين إلى القول إن اليسار لم يعد قادرا على الإمساك بمفاصل المجتمع، والتأثير على الدينامية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أوجدتها العولمة النيوليبرالية.
هذا اليسار الذي مثّل على مدى زمن طويل الفعل والحركة مقابل محافظة الليبراليين وفلسفتهم القائلة بـ”دعه يعمل”، بات اليوم متهَمًا بالتواطُؤِ مع عالم يتفجر فيه التفاوت، ويتعطل الاندماج، وتُكرِّس الأنظمة التعليمية إعادة الإنتاج الاجتماعي كما فسّرها بورديو، وتدمّر الرأسمالية الكون بأسره.
والسّؤال المطروح هو ما الذي أوهى اليسار إلى هذه الدرجة من الهوان، حتى صار عاجزا عن الفعل في العالم؟ ما هي العوائق التي حالت دون احتوائه غضبَ جماهير ضاقت ذرعا بمساوي العولمة في شتى الأصقاع ليقترح الحلول المناسبة، ليس على طريقة سيريزا اليونانية، ولا بوديموس الإسبانية، وكلاهما لم تبديا غير الثورة على الفساد الاقتصادي والسياسي دون أن تقدما بديلا جادا يستند إلى فهم حقيقي لمتطلبات المرحلة المعولمة، دون التنكر لقيم اليسار.
بعض المفكرين، مثل جان كلود ميشيا، يعتقد أن هذا العجز يتجلّى في تخلّي اليسار عن تغيير العالم، عن طريق تحالفه مع الليبرالية الاقتصادية والثقافية على حساب أولوية الدفاع عن الذين يعيشون ويعملون في ظروف تزداد تهميشا وهشاشة يوما بعد يوم .فيما يرى بعض التقدميين الليبراليين، مثل نيكولا بوزو، أن العجز مرده إلى تشبث اليسار بمقاربة عفا عليها الزمن، مقاربة تقوم على اشتراكية الدولة ودولة العناية والرفاه .والثّابت اليوم أن الرأيين يلتقيان في تشخيص أعراض الأدواء التي يعاني منها اليسار، فهي، وإن تعددت صيغها، لا تنأى عن الخيانة والتآكل، تحوم في معظمها بين التنكّر للأصول، وبين “برمجية” ما عادت تستجيب للمستجدات التي أفرزتها العولمة، والتطورات العميقة التي أحدثتها.
الخلاف قائم في صفوف اليسار ذاته، فبعضهم يعتبر نفسه اشتراكيا فقط مثل الفيلسوف مارسيل غوشيه الذي يميّز بين الاشتراكية كمفهوم يتضمن الدفاع عن الديمقراطية بوصفها مكسبا سياسيا بالغ الأهمية ونموذجا ينبغي إعمال النظر فيه باستمرار، وبين اليسار الذي يجمع عائلات سياسية متفرقة، لا يستثنى منها جناحه اللينيني.
فيما يرى بعضهم الآخر، مثل عالم الاجتماع إريك فاسّان، أن اليسار لا يحمل دلالة ثابتة، بل هو مفهوم لا يني يجدد معناه عن طريق المعارك السياسية، فهو ممارسة قبل أن يكون نظرية، وصراع أقليات ضدّ الميز العنصري والجنسي .فاليسار الجمهوري يتهم الاشتراكيين بخيانة العلمانية والاندماج، عبر مقايضة أصوات الأقليات الإثنية والجنسية بالأصوات الشعبية .وهو ما عناه مجمع أبحاث “تيرّا نوفا” في تقرير له عام 2012 بعنوان “اليسار، أيّ أغلبية انتخابية؟” جاء فيه “إن الطبقة العاملة ليست
في قلب التصويت لليسار، إذ لم تعد منسجمة مع مجمل قيمه، ولم تعد كما كانت من قبل المحركَ الذي يؤدي إلى تشكّل أغلبية اليسار الانتخابية .أما اليسار الليبرالي فهو يتهم يسارَ اليسارِ بعجزه عن استيعاب الاقتصاد الجديد والتأقلم معه .وفي خضم هذا النزاع، تبرز نقطتا خلاف فارقتان: أولاهما، خلاف اقتصادي يضع وجها لوجه أنصار الدخول في عالم ليبرالي جديد والمدافعين عن سياسة حمائية اقتصادية جديدة .وثانيتهما، خلاف أيديولوجي وثقافي يضع الجمهوريين، المتمسكين بالعلمانية،
في مواجهة اليسار الأخلاقي متعدد الثقافات، الذي يدعو إلى إيجاد توافقات معقولة، مع الإسلام بخاصة”.
ولئن بدا الأمر ملتبسا على غير العارف بخبايا الصراع القائم بين مختلف التيارات المتفرعة عن اليسار، فذلك لأن كل طرف يرفع في وجه الآخر قيما لا يستطيع أن ينكر أنها من أصول أيديولوجيته. هذه القيم التي هيكلت “برمجية” اليسار منذ قرنين ويمكن تلخيصها في خمس نقاط: فكرة “التقدم الاجتماعي” كتصور للمستقبل يسمح بالتدخل في الحاضر؛ فكرة “المشترك” أي مشروع إعادة التوزيع داخل “مجموعة مشتركة” يمكن أن تمثلنا؛ فكرة “المساواة”، التي تشمل الجميع كحقّ ووعد اجتماعي، وتتولى أمرها التربية؛ فكرة “طوباوية عالم آخر”، حيث لا وجود لعلاقات الهيمنة والاستغلال؛ وأخيرا، فكرة “شعب يسار” تكون الأخوّة القادمة موجودة فيه سلفا .بيد أن كل تلك القيم وضعتها موضعَ شكٍّ وإعادةَ نظر ليبراليةٌ جديدةٌ يهيمن فيها وعي تاريخي مركَّز على الحاضر أو على مستقبل كارثي، إلى جانب رؤية مجتمعية تتمحور حول الفردانية والتنافس والسوق، والقبول الضمني بالتفاوت الاجتماعي، وانفتاح الشعوب والأمم على الشبكة العالمية.
وليس أمام اليسار كي يضمن نجاته إلا أن يعيد ابتكار مفهومه ووسائله وغاياته، ولمَ لا العودة إلى الأصول كما ينصح بعض المفكرين، والمعروف أن الفيلسوف الفرنسي بيير لورو (1797-1871)، تردد قبل صياغة مفهوم “الاشتراكية” إذ رأى فيه خطرا في البداية، لكونه لا يقل وضاعة وعبثية عن الفردانية، ثم اقتنع بأنه يحتمل الأمل، فكتب يقول عام 1845 “نحن اشتراكيون، إذا قصدنا بالاشتراكية المذهب الذي لا يضحّي بأيّ لفظة من الصيغة ‘حرية، أخوة، مساواة، وحدة’ بل يوفق بينها جميعا” .ذلك أن الدال “يسار” كان في منطلقه يتيح أن يجمعَ تحت رايةٍ واحدة أولئك الذين يعتنقون بكيفية أو بأخرى أفكار ثورة 1789 ويعمدون بذلك إلى مقاومة الجهود الدائمة للكنيسة والنبالة لإعادة قيم مؤسسات العهد القديم، كليا أو جزئيا .من هذه الزاوية، يقول ميشيا، يستمد صراع اليسار الليبرالي والجمهوري ضدّ اليمين والرجعية جذوره الأولى من فكر الأنوار ولا سيما في قناعته الساذجة بأن التقدم على مستوى العقل والحرية سوف يقضي في النهاية على آخر معالم العالم القديم .غير أن هذه الصورة المانوية التبسيطية تتناسى أن نمط الإنتاج الرأسمالي -كما سيتخذ انطلاقه الحاسم خلال الثورة الصناعية الأولى- استوحى فلسفته من اقتصاد الأنوار السياسي، كآدم سميث وتورغو وفولتير.
إذا استحضرنا هذه الحقيقة التاريخية صار من الممكن أن نفهم الأسباب التي جعلت ثورة العمال الاشتراكيين الأوائل ضد ذلك النظام الصناعي، الجديد في حينه، لا تتطابق إلا دوريا مع مختلف دعوات اليسار “التقدمي” في القرن التاسع عشر إلى مقاومة قوى “الظلامية” و”الرجعية” وحدها.
لكأن اليسار عاد اليوم إلى لحظة البداية عام 1845، عندما كان حضيرة طوباوية يلتقي بداخلها ليبراليون وإنسانيون كانوا يريدون إلغاء كل تمييز طبقي، وتضامنيون يتواصون بالتعاون، ومنظِّمون يسعون إلى نفوذ عمّالي.
وكانت الاشتراكية في ذلك الوقت، كما بيّن الفيلسوف إيلي هاليفي (1870-1937) في كتابه “تاريخ الاشتراكية الأوروبية”، تغطي اتجاهين مختلفين: من ناحية، الطوباويون الذين يتوقون إلى مجتمع جديد، ولكنهم يرتابون من كل السلط، بما في ذلك سلطة الدولة، وكانوا يرون أنه يمكن الوصول إلى تشكيل عالم اقتصادي وأخلاقي جديد من خلال رواج الجمعيات التعاونية ودون مساعدة الدولة .وأما الساعون لإيجاد جواب عن الثورة الصناعية، فكانوا يعتقدون أن بالإمكان تعويض مبادرة الأفراد الحرة بعمل المجموعة الذي يقع تدبّره داخل الإنتاج، وتوزيع الثروة.
وفي اعتقاد مارسيل غوشيه أن علة اليسار تكمن في تفتت القواعد التي قام عليها .فمنذ تشكل الأحزاب العمالية الأولى في نهاية القرن التاسع عشر، كانت الاشتراكية تستند إلى مشروع اقتصادي يقوم على تطبيق النظم الجماعية على وسائل الإنتاج، وإيلاء الدولة دورا مركزيا، مع التأكيد على فاعل تاريخي مميز هو البروليتاريا، رأس حربة الصراع الطبقي .وكان اليسار حينئذ يَعِد بتجاوز التنظيم الاجتماعي القائم تجاوزا يُدرِجه في مسيرة التاريخ .وصحيح أن انشقاقا كان يفرّق بين الإصلاحيين والثوريين، ولكنّ الخلاف كان حول الوسائل الكفيلة بتغيير المجتمع، أما الغاية فكانت في جوهرها واحدة.
كل ذلك البنيان تهاوى قطعة قطعة، وشهدت مجتمعاتنا ظاهرة إزالة البروليتاريا عبر تعميم الإجارة (منظومة الأجراء) .وبذلك صار شيوع وسائل الإنتاج، ولو في شكل تأميم، مثيرا للاشمئزاز، وبات تدخل الدولة مذموما إلا إذا كان من أجل إنقاذ البنوك .وعدلت قوى اليسار في مجملها عن وضع التغيير الاجتماعي في صميم مشروعها.
وهنا يكمن عمق الأزمة، فقد فقدت تلك القوى قدرتها على تأوّل وقيادة حركة المجتمع نحو حال أكثر اكتمالا وعدلا .وفي رأي غوشيه فإن هذا العجز يصيب اليسار الحاكم واليسار الراديكالي على حدّ سواء، فالأول حصر دوره في تسويات وتعديلات على الهامش، والثاني اكتفى بإدانة الوضع القائم إدانة لا تقدّم ولا تؤخر.
———————————————————————-
* كاتب تونسي مقيم بباريس.