تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ الأسرة التونسية تغرق في الدّيون في ظل تراجع قيمة العملة المحلية وتنامي العقلية الاستهلاكية.
تطلق الأسر التونسية في إطار الاستعدادات لاستقبال شهر رمضان العنان للشهوات. ويرتفع منسوب الاستهلاك في الوقت الذي تشتكي فيه أغلبية العائلات من غلاء المعيشة وانخفاض مقدرتها الشرائية. ويجد معيل الأسرة نفسه أمام قائمات من المتطلبات للبيت والزوجة والأبناء قد يعجز على توفيرها. وأمام غياب الحلول قد تنشب الخلافات داخل الأسرة ولا ينتبه الجميع إلى أن الحلول تكون بسيطة وفي المتناول.
لا يكترث الأبناء الصغار في السن والمراهقون بما يعانيه الآباء من مشكلات وصعوبات مادية بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور في تونس. ويركزون فقط على تلبية متطلباتهم وحاجياتهم وفي أغلب الحالات لا يفهم هؤلاء المقولات عن تدهور الاقتصاد وضعف المقدرة الشرائية للمواطن والتضخم المالي والارتفاع المشط لأسعار المواد الاستهلاكية.
ويرجح المختصون في علم النفس أن مطالبة الأبناء وعدم تقبلهم لعجز الآباء عن تلبية رغباتهم يرجع في أغلب الأحيان إلى عدم تشريك الوالدين لأبنائهما في تسيير الشأن المالي للبيت. وعدم تعليمهم كيفية التصرف حتى في مصاريفهم الخاصة، وكذلك بسبب تعويدهم على توفير وشراء كل ما يطلبون دون مناقشتهم والدخول معهم في التفاصيل وتلقينهم أنه لا يمكن توفير جميع الأشياء التي يريدون اقتناءها في كل الأوقات والظروف.
ويعاني أرباب الأسر في بعض الحالات من طلبات الزوجة التي لا تلتمس الأعذار لزوجها وتتهمه بالبخل ما لم يوفر لها لوازم البيت ومتطلباتها وهو ما يجعل الخلافات بينهما سرعان ما تنشب. وأحيانا تكون مثل هذه الطباع في الزوج عندما يكون كثير الشهوات ويسرف في سبيل توفير الكماليات والضروريات دون تقدير لعواقب إسرافه وتبذيره والتأثير على الوضع المادي للأسرة وكثيرا ما يسقط معيل الأسرة في التداين بسبب سوء التصرف في الموارد المتوفرة.
وتعتبر الاستعدادات لشهر رمضان من فترات الذروة في الاستهلاك لدى التونسيين حيث تقبل جلّ الأسر على الأسواق والفضاءات التجارية لاقتناء لوازم البيت وتجهيزه لشهر الصيام. ورغم أنّ جلّ الأسر التونسية تشتكي من غلاء المواد الاستهلاكية ومن تدهور أوضاعها المادية إلا أن المحال التجارية بجميع أنواعها تشكو من الاكتظاظ الشديد. ويلاحظ كل من يزور الأسواق والمحال لهفة التونسي على شراء كل ما يلزم وأحيانا أكثر مما يلزم وما يفوق قدراته المالية وطاقته الشرائية.
ومن المفارقات أنه بقدر شكوى التونسي من غلاء المعيشة والصعوبات المالية بقدر إقباله على الاستهلاك المبالغ فيه، وبقدر التبذير الذي كشفته العديد من الدراسات والإحصائيات التي قدمها المعهد الوطني للاستهلاك حيث تبين أن معدل الاستهلاك يرتفع في شهر الصيام بحوالي 15 بالمئة مقارنة مع بقية أشهر السنة.
وتقول نجاح بن عمارة، ربة بيت وأم لثلاثة أطفال، ” إنها لا تقبل أن تحرم هي وأبناؤها من أي شيء من مستلزمات البيت والغذاء خاصة وأن أبناءها صغار ويحتاجون إلى تغذية جيدة. مؤكدة أن زوجها يحاول توفير كل ما يلزمهم في البيت إلى جانب متطلباتهم الدراسية رغم ظروفه المادية الصعبة وأنه في الكثير من الحالات يضطر إلى التداين لتوفير ما يطلبون. لكن بتزامن شهر رمضان مع بداية فصل الصيف وبعد أن أنهكتنا مصاريف العام الدراسي فإننا قد نضطر إلى التخلي عن الكثير من الأشياء التي اعتدنا شراءها استعدادا لرمضان وقد نضطر إلى تخفيض الكمية أيضا ونتخلى عن الكماليات مثل الحلويات وغيرها.
من جانبها تقول الخالة عربية وهي ستينية وربة بيت لقد اشتعلت أسعار المواد الاستهلاكية من خضر ولحوم وغيرها من السلع، “كنا ومنذ سنوات قليلة بربع المبلغ الذي ننفقه الآن نستطيع أن نقتني ما يلزمنا من لوازم البيت استعدادا لرمضان”. وتضيف لـ”العرب” تخلت الأسرة التونسية عن العادات والتقاليد التي تساعدها في الاقتصاد في المصاريف “لقد كنا نعتمد على ‘العولة’ أي المؤونة حيث تعد النساء الكثير من المواد الغذائية في المنزل وبطريقة صحية وتقليدية فنعد الكسكسي مثلا وشوربة رمضان ومعجون الطماطم وغيرها بحيث تكون الأغذية طازجة وتوفر العديد من المصاريف”.
وتشير عربية إلى أنها تلاحظ معاناة الأسرة وتمزقها بين مصاريف الأبناء والمناسبات الدينية وغيرها. وتؤكد أنها لاحظت أيضا من خلال الأسر وتربيتها لأبنائها أن الوالدين اليوم يبالغان في الاستجابة لمتطلبات أبنائهما ويدللانهم ولا يعلمانهم أنه عليهم أن يعذروا آباءهم عندما يعجزون عن تلبية متطلباتهم وأن هذا ما يزيد الصعوبات المادية التي يعيشونها بسبب تدهور أوضاع البلاد.
ويؤكد مدير عام المعهد الوطني للاستهلاك أنّ جلّ الدراسات والإحصائيات التي قام بها المعهد أظهرت أن الأسرة التونسية تحتاج إلى المزيد من التوعية في ما يخصّ ترشيد الاستهلاك لأنّ جلّ المؤشّرات بيّنت أنّ كلّ الفئات الاجتماعية نساء ورجالا وفي جلّ جهات البلاد تمارس التبذير من دون وعي. ويرجع ذلك بحسب أبحاث المعهد إلى نمط استهلاكي اعتاده التونسيون ولم يتمكنوا من تغييره وفقا لمتغيرات السوق وتقلبات الأسعار. مشيرا إلى أن هذا السلوك الذي يوقع الأسرة في التداين من أجل تلبية الحاجيات اليومية يجب أن يتغيّر لكي لا تفقد الأسرة توازنها المالي.
كما تشير الدراسات التي تتناول استهلاك المواطن التونسي إلى أن الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة ومن بينها الموظفون الذين يعيشون في المدن الكبرى وفي منازل على وجه الإيجار أصبحت أوضاعهم المادية متردّية بسبب الوضع الاقتصادي الهشّ.
ويجد أرباب الأسر أنفسهم تحت ضغط مادي ونفسي مستمر تزداد حدة تداعياته على الأسرة عندما لا يشترك جل أفرادها حتى الصغار في إدارة الموارد المالية المتوفرة.