تحاليل _ تحاليل سياسية _ الانتخابات والديمقراطية.. من يصنع الآخر ؟.
أين أوجه الاتصال وأين حدود الانفصال بين الديمقراطية والانتخابات، علما أن دكتاتوريات عديدة في التاريخ الحديث قد جاءت بها انتخابات ديمقراطية حرة، كذلك هناك بلدان قد أشاعت حكوماتها مناخا ديمقراطيا تشاوريا دون أن يكون لها باع في تنظيم انتخابات وفق النموذج الغربي السائد.
أول ما يقفز إلى أذهاننا عند سماع كلمة انتخابات، هو منظومة مفردات ومفاهيم، ترتبط ارتباطا وثيقا وعضويا بالنظم الديمقراطية التي تختلف في آليات عملها، لكنها تلتقي عند مبدأ “الشعب مصدر السلطة” والذي يتطلب انتخابات تنافسية نزيهة، تهدف إلى تنظيم عمل مؤسسات الحكم استنادا للقانون، واعتماد مبدأ التداول السلمي، وتنظيم علاقة الحكم بالمواطنين على أساس المواطنة وحدها مع استبعاد كل تمييز تفاضلي آخر يقوم على أساس الأصل أو اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية.
إرساء هذه المبادئ في الديمقراطيات المعاصرة يكون وفق مواثيق ودساتير مكتوبة، يتم إقرارها والالتزام بها من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتجرى الانتخابات لتحقيق مقاصد محددة وبصورة فعالة، فهي ليست هدفا بحد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق ما أريد لها.
وتتسم الانتخابات بمجموعة من المعايير لضمان نزاهتها، مثل سرية الاقتراع وحريته لجميع الناخبين وحق المتنافسين في الإشراف على سير الانتخابات من خلال مندوبيهم وحماية الدوائر الانتخابية من أي تدخل من أي جهة بغرض التأثير على الناخبين لصالح مرشح معيّن، وأمن الدوائر الانتخابية ضد أي عمليات عنف قد تستهدف تخريب الانتخابات أو تعطيلها.
الانتخابات النزيهة يجب أن تتحلى بشفافية عملية فرز الأصوات وإظهار النتائج وإعلانها، وإعطاء مهلة مناسبة لتلقي الشكاوى والطعون، الأمر الذي غالبا ما تقوم به اللجنة المشرفة على الانتخابات أو المحاكم.
ما ينبغي ألا يتناساه الناس، خصوصا في البلاد حديثة العهد بالنظم الانتخابية، هو أن مجرد إجراء انتخابات في بلد ما لا يعني أن نظام الحكم فيه قد خرج من مصاف الدول التسلطية أو الشمولية وأصبح ديمقراطيا، فالانتخابات الديمقراطية الحقيقية، لا بد أن تستند إلى دستور ديمقراطي يضع المبادئ الرئيسية للديمقراطية موضع التطبيق ثم أن الديمقراطية هي سلوك وثقافة وذهنية تبدأ من التربية الأسرية وكيفية احترام الرأي المخالف والطرف المنافس مع ضرورة القبول بالنتائج في حالة الهزيمة.
ومع ذلك ليست كل الانتخابات التي تشهدها دول العالم المعاصر ديمقراطية، إذ طور الحكام أساليب عدة للتلاعب في الانتخابات لتحقيق مقاصد غير تلك التي ترجى من وراء الانتخابات الديمقراطية، خصوصا في النظم ذات الحكم الاستبدادي إذ عادة ما تأتي النتائج معروفة مسبقا وليس ثمة إمكانية لتغيير مركز القوة السياسية، وذلك ليس لثبات آراء الناخبين وإدراكهم للبدائل المطروحة، وإنما نتيجةً للآليات التي يطورها الحكام للتأثير على أصوات الناخبين بالترهيب والعنف وشراء الأصوات والتلاعب في النتائج.
هل ثقافة مجتمعاتنا هي ثقافة ديمقراطية، تقبل المنافسة النزيهة والقبول بما يقوله صندوق الاقتراع دون اعتراض أم أنها تنزع نحو تعصب فطري متأصل لدى الفرد والجماعة، ويتمثل في مقولة “أنا أو لا أحد”؟
كثيرا ما يستخدم هذا السؤال ككلمة حق يراد بها باطل، وذلك من طرف المبررين للسياسات القمعية التي تنتهجها الأنظمة الشمولية، فيربط هؤلاء غياب العقلية الديمقراطية لدى الفرد بغيابها لدى الحاكم ويلوكون عبارة مفادها أن مجتمعاتنا ليست مؤهلة لاستيعاب نظام حكم ديمقراطي يأخذ برأي مواطنيه في اختيار من يحكمهم، لكن لسائل أن يسأل: لو أن بعض القرارات ذات الصبغة الحضارية التي فرضتها بعض الأنظمة على شعوبها، طرحت للاستفتاء العام بمنتهى الشفافية والنزاهة، هل كان لهذه القرارات أن تنتصر وتسود؟
ولكي لا نظلم أنظمة عربية كثيرة فإن قوانين وقرارات ذات صفة ثورية، قد وقع اعتمادها، وما كانت هذه القوانين لترى النور لو وقع اللجوء فيها للاستفتاء العام، ونذكر منها على سبيل المثال إلغاء العمل بأعراف الثأر والتخفيف في الحكم في ما يعرف بجرائم الشرف، وكذلك قانون الأحوال الشخصية التونسي والذي فرض في منتصف خمسينات القرن الماضي دون أن يسقط باعثه بورقيبة، آنذاك في فخ طرحه على الاستفتاء في مجتمع ما زال يعاني الأمية والتخلف، ويتمسك بتقاليد قبلية.
خلاصة ما يمكن قوله في فكرة مدى الترابط بين الديمقراطية والانتخابات، هو أن الأخيرة مظهر من مظاهر الديمقراطية، لكنها ليست التعبير الوحيد عنها، فكثيرا ما تشهد ديمقراطيات عريقة بعض الهنات والتلاعب بنتائج الانتخابات أو حتى إلغاءها، كما أن صناديق الاقتراع الشفافة، لا تصنع بالضرورة ديمقراطية واعدة كما يحدث في بلدان عربية ما زالت تتلمس طريقها نحو نظام يعتمد التداول السلمي للسلطة.