تحاليل _ تحاليل سياسية _ الغرب يدير ظهره للعولمة والعرب يتخبّطون. |بقلم: حسين الوادعي.
عندما بدأت النقاشات المحتدمة حول “العولمة” قبل عقدين من الزمان كانت أغلب الأصوات المؤيدة للعولمة تأتي من الغرب، وأغلب الأصوات الرافضة تأتي من العالم الثالث.
المتحمسون للعولمة رأوا فيها تطوراً طبيعياً للحضارة العالمية تنهار فيه الحواجز أمام انتقال الأموال والأفكار والبشر.
أما الرافضون فكانوا يرون فيها إمبريالية جديدة تسعى للسيطرة على الشعوب والموارد وتغريب العالم وتفتيت الخصوصيات.
كان العرب يفهمون العولمة من كتاب “فخ العولمة” بموقفه المتشدد في رفضها والتشنيع بها. وكان الغرب يفهم العولمة من كتاب ” شجرة الزيتون وسيارة اللكزس” لتوماس فريدمان الذي صور العولمة جنة أرضية قريبة التحقق.
اليوم تبدو الصورة مقلوبة.
أعنف حركة رفض للعولمة تنبثق من داخل العالم الغربي نفسه، بينما المناشدات بالالتزام بقيم العولمة تأتي من العالم الثالث سابقاً!.
في أزمة اللاجئين السوريين شاهدت بوضوح التحول الدراماتيكي. فبينما كان الغرب الأوروبي يدعو لإغلاق الحدود وتقييد حركة البشر بين الحدود (وهي واحدة من أبرز مبادئ العولمة)، كان العالم العربي والإسلامي يطالب بشدة بفتح حدود أوروبا أمام اللاجئين. وبعد أن ظل العرب والمسلمون رافضين لاستخدام خطاب حقوق الإنسان في العلاقات الدولية معتبرينه “شماعة” غربية للتدخل في الشؤون الداخلية، ها هم الآن يرفعونه في وجه أوروبا، مطالبين بتفعيل حقّ اللجوء (رغم أنّ أغلب الدول العربية والخليجية بالذّات أغلقت حدودها أمام اللاجئين وتفرض شروطاً غاية في التعقيد لاستقبالهم)!.
عام 2016 كان لحظة رفض العولمة من قلب العالم الرأسمالي نفسه.
بدأ الزلزال الرافض للعولمة بالتصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي. وكان وراء هذا الخروج المفاجئ ثلاثة دوافع: الحد من تدفق المهاجرين، وعودة الاستثمارات البريطانية وتعويض الوظائف التي خسرتها بسبب عولمة استثماراتها، والخوف على الهوية الوطنية من الوافدين الجدد بقيم مختلفة.
هذه المطالب الثلاث هي النقيض لعناصر العولمة الثلاثة (حرية انتقال الأموال والبشر والأفكار).
ثم جاء ترامب ليقود رفضاً أمريكياً آخر ضد العولمة في ثلاث طلبات مشابهة هي: الحد من تدفق المهاجرين (تقييد حرية انتقال البشر)، وتغريم الشركات الأمريكية التي تنقل استثماراتها للخارج (تقييد حرية انتقال الأموال)، والتشديد على الهوية الأمريكية المتميزة (خطاب الخصوصية المناهض لخطاب العولمة الثقافية).
نفس التحول المضاد للعولمة جرى في إيطاليا التي تتجه نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي فرنسا التي يكاد اليمين الشعبوي يسيطر على المجال السياسي فيها.
هل نتحدث عن سخرية القدر أم عن مكر التاريخ كما يسميه هيجل؟
كان العالم الثالث قبل 20 عام يخشى مخاطر العولمة على الدولة الوطنية والهوية الوطنية. وها هو الغرب اليوم يتحدث عن خطر الحدود المفتوحة على هويته وعلى دولته.
شكّل الربيع العربي تبدلاً آخر في موقف “الشرق” و “الغرب” من قيم العولمة. سابقاً كان شعار “نشر الديمقراطية” مشكوكاً فيه في العالم العربي الذي ظل يعتبر مثل تلك الدعوات “حصان طروادة” الأمريكي للاستعمار. لكن خلال أحداث الربيع العربي كانت أقوى المناشدات التي تطالب الغرب بدعم الديمقراطية تأتي من داخل الوطن العربي نفسه، ومن أكثر قواه السياسية تقليدية (المحافظون والإسلاميون) إلى درجة تحريضه على التدخل العسكري المباشر في سوريا وليبيا. لكن “نشر الديمقراطية” لم يعد أولوية غربيه بعد فشل الربيع وصعود أولوية “مكافحة الإرهاب”.
لم تكن العولمة خسارة كاملة للوطن العربي فقد كسب منها الكثير.
عجلت العولمة في انهيار الأنظمة الشمولية أو تخفيف قبضتها، وساهمت في نشر الديمقراطية، والمعرفة الجديدة، وكسر حدود الرقابة. في دول العالم الأخرى قادت العولمة أكبر نهضات اقتصادية واجتماعية في تاريخ الهند والصين والنمور الآسيوية، ورفعت البرازيل والأرجنتين إلى مصاف الاقتصادات العالمية المنافسة. ولم تكن العولمة باتجاه واحد.
“الشرق” ركب قطار العولمة ونافس الغرب. أخذ مصانعه، ووظائفه، وشركاته الكبرى، وأرسل له اللاجئين وبدأ ينافسه في الجنسية والمواطنة والسكن والضمان الاجتماعي.
وكما ربح العالم العربي والإسلامي الكثير من العولمة خسر أيضاً. انتشر الفقر، وتفكّكت بعض الدول، وتدهورت الخدمات العامّة بسبب سياسات صندوق النقد الدولي المتشدّدة.
العولمة ليست جيّدة أو سيئة بحد ذاتها. والعالم سيخسر كثيراً بالرفض العشوائي للعولمة ، مثلما خسر بالاندفاع العشوائي نحوها. لكن الغرب يدير ظهره للعولمة والعرب يتخبّطون بين القناعة الحقيقية والموقف النّفعي.