تحاليل _ تحاليل سياسية _ المصالحة التونسية: صراع الحقيقة والأيديولوجيا. |بقلم: طارق القيزاني*.
يحتاج التونسيون إلى تحديد سقف تطلعاتهم من عمل هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بالتقصي حول انتهاكات الماضي، بشكل واضح ودقيق قبل فوات الأوان.
فما هو ظاهر حتى الآن من وراء أعمال الهيئة لا يخرج عن نطاق النبش في التاريخ بشكل لا يخلو من النوايا المبيتة نحو التوظيف السياسي وضرب الخصوم والإمعان في الاستفزاز.
ولا يبدو أن هذه سياسة تتفق مع الأهداف الأساسية التي بعثت من أجلها الهيئة، وهي التجميع والمصارحة ثم المصالحة بدل بث الفتنة والشقاق ومراكمة العداءات.
لم تضف الجلسات العلنية منذ انطلاقها جديدا عما قدمته سابقا مراكز بحوث ودراسات متخصصة ومنابر إعلامية مستقلة ومحررة بعد الثورة من شهادات لنخب ورموز المعارضة المضطهدة أيام الحكم الاستبدادي.
فكل ما حفلت به جلسات الهيئة، منذ انطلاقتها لأول مرة في نوفمبر الماضي، أنها جاءت في قالب استعراضي تداخل فيه الدور القضائي مع التأريخي التسجيلي، مع أن الهيئة تنفي تماما أي دور لها في كلتا الحالتين.
في معرض الدفاع عن موقفها يدفع مناصرو الهيئة بأن اختصاصها الأصلي لا يقوم على إعادة كتابة التاريخ وإنما الكشف عن الحقائق والانتهاكات الحاصلة ضد حقوق الإنسان ومن ثم مساعدة المؤرخين في إعادة تقليب بعض ما خفي من الماضي.
غير أن الهيئة تتغافل عن حقيقة مفادها أن اعترافات الضحايا، وكما يمكن أن تمثل شهادة على العصر وتميط اللثام عن حقائق تاريخية مخفية، فإن من شأنها أيضا أن تمثل شهادات مبتورة بتغاضيها عن كشف جوانب أخرى لأسباب ذاتية تخص الضحايا.
والسؤال هو كيف يمكن أن يعتد علميا بتلك الشهادات بين أوساط المؤرخين وأن توضع على المحك العلمي، وأي مدرسة يتوجب عليهم توخيها لضمان أقصى درجات الموضوعية؟
هل عليهم مثلا الركون إلى المدرسة الوضعية بكل ما تعنيه هذه المدرسة من صرامة في التعاطي مع الوقائع والأحداث وعبر الوثائق الرسمية المكتوبة لا غير؟
أم هل يتعين على المؤرخين السير على منهاج “الحوليات” الجامعة لكافة العلوم الإنسانية إلى جانب العمل المختبري؟ وهو منهاج لا يستثني أيضا الوثائق الرسمية وغير الرسمية أو المكتوبة والشفاهية من التثبت في الحقائق والوقائع.
في كلتا الحالتين لا مفر من الصرامة العلمية عند التمحيص، حتى وإن كان الأمر لا يتعلق بإعادة كتابة التاريخ، فالحقيقة تستدعي أقصى درجات التجرد والأمانة.
مع ذلك تدفع تلك الشهادات العلنية عن قصد أو غير قصد، نحو زعزعة قناعات وتوجيه الرأي العام إلى قراءات مغايرة لما دوّنه المؤرخون والأكاديميون مع كل التحفظات التي يبديها هؤلاء، ليس فقط بشأن أسلوب عمل الهيئة الموجه ولكن أيضا في تركيبتها وطريقة تنصيبها.
وفي هذا السياق وجب التذكير ببعض الملاحظات:
تصنف رئيسة الهيئة من بين النشطاء المعارضين للنظام السياسي القائم قبل الثورة. وبعد الثورة ظلت محسوبة على جناح الإسلاميين الذين اكتسحوا الانتخابات التشريعية في 2011 وكانوا وراء تزكيتها لاحقا بمعية حلفائهم في البرلمان لتنصيبها رئيسة للهيئة، في منصب كان يستدعي أقصى درجات الحياد والتوافق بين الحساسيات السياسية بما في ذلك المدانون في حقبة الدكتاتورية.
منذ بدء أعمالها لم يكن التوافق قائما بين الهيئة وباقي المؤسسات الدستورية ولا حتى داخل تركيبة الهيئة نفسها التي تضج بالصراعات والاتهامات المتبادلة بين أعضائها بخدمة أجندات سياسية وسوء الإدارة.
الأهم من ذلك أن محور الجدل في تونس اليوم هو كيف يمكن النأي بالتاريخ عن السجالات الأيديولوجية التي رافقت عمل الهيئة وتهدد بشكل جدي بفرقعة النسيج المجتمعي.
فلا يخفى على العارفين بتاريخ الصراعات السياسية في البلاد، ذلك الخيط الرفيع الرابط بين الخلفيات السياسية والعينات المنتقاة في جلسات الكشف عن الانتهاكات.
وكان يتعين على هيئة الحقيقة أن تنأى بنفسها عن الانتقائية الممنهجة التي تجعلها في موضع المحرض على الفتنة والنزعة الانتقامية وتصفية الحسابات بدل التمهيد إلى المصالحة.
وتنطلق الهيئة في تقصيها التاريخي من ثنائية الجلاد والضحية كمعطى مسلم به في معالجة ملف الصراع بين الزعيمين الراحلين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف منافسه على الزعامة في الحزب الدستوري في بداية تأسيس دولة الاستقلال. وهي تركز أساسا على الانتهاكات التي حصلت لليوسفيين في السجون وصولا إلى حادثة اغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا بداية الستينات من القرن الماضي.
لكن الهيئة أغفلت في سياق ذلك حقيقة أن الوضع السياسي وموقع الزعامة في تلك الفترة لم يكونا يتسعان للرجلين معا، مثلما تجاهلت كذلك محاولة الانقلاب العسكري الدموي ضد بورقيبة بداية الستينات من القرن الماضي، والانتهاكات التي حصلت على يد اليوسفيين في ذروة الصراع مع البورقبيين، قبل أن يؤول الأمر إلى صالح الزعيم الحبيب بورقيبة.
فضلا عن ذلك افتقدت الجلسات العلنية إلى أحد الشروط الأساسية في التمهيد للمصالحة الوطنية، إذ غاب عن جلسات الاعتراف ممثلو الأنظمة السياسية السابقة، للاستماع إلى اعترافاتهم بخصوص الانتهاكات الحاصلة والتعبير عن الندم.
وعلى الرغم من دقة الأحداث وحساسيتها، لم تحتكم الهيئة في تقصيها إلى لجنة مؤرخين متخصصين، على اعتبار أن عملها في تماس مع التسجيل التاريخي، بما يمكن من تمحيص كل المعلومات ذات العلاقة بالوقائع والأحداث التي حصلت في الماضي. بل إن العلاقة بين الهيئة والمجامع العلمية قائمة حتى اليوم على القطيعة التامة.
وهذه العزلة التي ظلت تحيط بهيئة الحقيقة والكرامة جعلت من الجلسات العلنية في بعض جوانبها أشبه بمحاكمات نورمبارغ، والتي وضع فيها المنتصرون عدالة بالمقاس دون فسح المجال للمدانين بالدفاع عن أنفسهم، والكشف عن أسباب اقترافهم لتلك الأعمال الاستبدادية والقمعية أو المشاركة فيها.
ولا يعني ذلك في كل الأحوال البحث عن تبريرات للانتهاكات الجسيمة ضدّ حقوق الإنسان، لكن يؤخذ على الهيئة في عرض شهادات الضحايا على طريقة التداعي الحرّ إهمالها المقصود والمتكرّر للسؤال الجوهري: “لماذا؟”، إلى جانب تغييب السياقات التاريخية الكاملة التي حفّت بها الأحداث، حتى تكون الأجيال الجديدة على اطلاع كامل بكل الظروف التي أحاطت بتلك الأحداث في الماضي.
هيئة الحقيقة والكرامة في حدّ ذاتها فكرة نبيلة ومسار ملح في طريق الانتقال الديمقراطي والمصالحة الوطنية، غير أن منهجية العمل التي لا تخلو من الدقة والحساسية، كان يفترض أن تتوفق من خلالها الهيئة إلى رد الاعتبار للضحايا تماما كما الحفاظ على كرامة المدانين ضد موجات التشفي والعدائية.
وهو أمر لم تنجح في إرسائه الهيئة إذ زادت عمليات النبش الممنهجة للتاريخ في شحن المناخ الاجتماعي.
وحتى الآن يعتري أهداف عمليات التقصي عن الانتهاكات حالة من اللبس. فالهيئة ترفع شعار الحقيقة والمصالحة الوطنية، غير أنها تشترط قبل ذلك المحاسبة. كما ليس هناك وضوح كامل في معنى المحاسبة، إن كان ذلك سيكون قضائيا أو مقترنا فقط بالاعتراف ورد الحقوق إلى أصحابها.
لطالما ردد أعضاء الهيئة أنهم استلهموا طرق عملهم من التجارب المقارنة في المصالحة، بدءا بنموذج هيئة المصالحة والإنصاف المغربية والتجارب الأوروبية التي أعقبت الحرب الباردة والحروب الأهلية، وصولا إلى تجارب دول أميركا اللاتينية.
لكن لا أثر عمليا لأيّ من تلك التجارب في مقاربة هيئة الحقيقة والكرامة للمصالحة الوطنية حتى الآن، على الأقل في ما آلت إليه من ردود ونتائج أولية. ولا يبدو أنّ الدّرب واضح لهذه المقاربة، طالما أنّ الإجماع الوطني بدأ يتلاشى من حول الهيئة لتتحوّل تدريجيا إلى أحد محاور الصراع الأيديولوجي في البلاد، وفي ذلك ضربة مزدوجة للحقيقة والعدالة في آن واحد.