تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس: الثّورة المنقوصة ووعود ‘الصّبر مقابل الغذاء’. |بقلم: أمين بن مسعود.
لم يدر في خلد أكثر المتفائلين عشية 14 جانفي 2011 بأن تونس ستعرف زخما كبيرا من الحرية السياسية والمدنية والحقوقية يسمح لها بإجراء ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة، وبفتح المجال أمام تخمة من الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والجمعيات المدنية، وبتملّك المواطنين للفضاء العام وللشوارع الرئيسية في العاصمة والمحافظات الأخرى، حيث يعلو الصوت السياسي بلا سقف وتحبّر الشعارات بلا حدود.
كما لم يدر في خلد أكثر المتشائمين مساء 14 جانفي 2011 أن تتحوّل تونس إلى دولة على حافة الإفلاس، حيث تنهش كافة أوبئة الاقتصاد الهش والمريض، من فساد إداري إلى ترهّل في الإنتاج، إلى اختلال كبير في مستوى الميزان التجاري، المنظومة الاقتصادية الوطنية.
ليس من الطرافة ولا من باب الجدّة التأكيد على أنّ السنوات السبع لما يصطلح عليه في تونس بـ“الثورة” اتسمت بتطوّر سياسي ومدني بلغ مستوى “النموذج في العالم العربيّ والإسلامي”، كما اصطبغت بـ“انهيار اقتصادي متسارع وكبير” وصل حدّ “النموذج النقيض أو العكسي” لكل دولة ترمي التنمية المالية والترميم التجاري والتطوير الاستثماري… وفي الحالتين تونس تقدّم الدروس الناجعة للآخرين.
وكما لا يمكن الفصل بين المطلبية السياسية ونظيرتها الاقتصادية إلا منهجيا وعلميا، ذلك أن الحقوق الاقتصادية تؤثر على الحقوق السياسية والعكس أيضا صحيح، فإن مشهدية الغضب والتظاهر التي عرفها أمس الأحد شارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة وفي باقي المحافظات تعبّر عن مقولة “الثورة المنقوصة” وتجسّد فكرة “الانتفاضة القاصرة عن تحقيق أهدافها”.
ذلك أنّ روح الشباب المنتفض في ذات شتاء 2011، انعتقت من ربقة الاستبداد طلبا للكرامة الاجتماعية السليبة واستدرارا لبيئة سياسية واقتصادية بديلة، وكما أنّ أنصاف الحلول لم تنقذ الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي من فورة الغضب الشعبي، فإنّ أنصاف الكرامة لا تلبّي تطلّعات فئة واسعة من الشعب الغاضب.
ولئن كان جزء من الاحتشاد والاحتجاج المنسحب على الحالة التونسية منذ نحو أسبوع محرّكه الأبرز قانون المالية وفصوله الثقيلة على الجيوب شبه الخالية، فإن عنوانه الأساسي التنديد بوضعية الانتفاضة المنقوصة والمقلوبة. فعوضا من تعميم الكفاف بين الفقراء والطبقة المتوسطة، ارتدّ الواقع إلى تعميم الفاقة والحاجة على شريحة واسعـة من الموظفـين والإداريين الذين باتوا اليوم بالاسم والرسم “فقـراء جددا” بعد أن كانوا بالأمس القريب “طبقة وسطى”.
وهو الأمر الذي أفضى إلى اهتراء الطبقة المتوسطة وإلى قرب فقدانها بالكامل، ما ينذر لا فقط بهوّة اجتماعية سحيقة بين الغالبية الفقيرة والمعدمة والأقلية المرفهة، وإنما يضع حدا بشكل نهائي لأي مناخ ديمقراطي ومدني حرّ ومسؤول وتعدديّ، فضياع الطبقة المتوسطة يعني انخرام الرافعة والقاطرة المجتمعية لأيّ دمقرطة للحياة العامة.
الوضعية التي تعيشها تونس اليوم صعبة وحرجة للغاية، بشهادة الحكومة ذاتها، ذلك أن عامل الزمن الاجتماعي الذي راهنت عليه كافة حكومات ما بعد 14 جانفي 2011 استنزف بالكامل أو يكاد، فوعود “الصبر مقابل الغذاء” بلغت منتهاها والتعهدات الانتخابية لكافة الأحزاب، من المعارضة والحكومة على حدّ السواء، بتشغيل المئات من الآلاف، وبإنهاء الفقر المؤقت أوصلت شريحة من الشعب التونسي إلى اجتراح مقولات “فاش تستناو” (ماذا تنتظر)؟ أو “يزّي تعبنا” (يكفي فقد تعبنا).
في المقابل، لا يبدو أن لدى الحكومة من البرامج المستقبلية والمشاريع ما يمكّنها من تهدئة حدّة الغضب الاجتماعي، والإجراءات التي تم إعلانها على أهميتها وتأثيرها المتراكم على الميزانية التكميلية، تبقى ترقيعية وإطفائية بخرطوم قليل تدفق المياه أمام لهيب مستعر.
إشكاليّة خطاب الصراحة الذي يعتمده رئيسا الجمهورية والحكومة في ما يخص الواقع الاقتصادي، أنه جاء بالوصفة الصحيحة والصريحة في الزمن الاجتماعي المتأخر، فآليات تقبّل خطاب المصارحة والمصابرة لدى الجمهور كانت متوفرة في زمن الإيمان والأمل في صناعة المشروع المجتمعي التشاركي، أما مع قرب انفراط العقد الاجتماعي وضعف الاستراتيجية الاتصالية وكثرة مؤشرات الاستقالة المجتمعية سيما في طبقة الشباب ودلائل العطب السياسي، فإن مقومات التفهّم الفاعل الرسمي ومقدرات الاستجابة لرسائله ضعيفة إن لم نقل منعدمة.
ومقاربتنا لا تعني أبدا خلوّ المعنى من خطاب الصراحة بالموجود، ولكنّها تؤكّد أنّ الآذان لا تستمع طالما أن الجيوب خالية والأمعاء خاوية، وأنّ الشعب سيصبر فقط برسم الاستراتيجية وجدولة المردودية وضبط الأدوات التنفيذية ودعمه بما يمكنه من مقاومة غلاء الأسعار وانهيار الدينار. وطالما أن الحكومة طالبت الشعب بتقديم التضحيات، فهي مطالبة في المقابل بتقديم تنازلات حقيقية وملموسة لصالح الشعب تبدأ من تقليص الأداء أو الزيادة في الأجور ولا تنتهي عند الكفّ عن التفتيش في جيب الفقراء الجدد لتطرق جيوب القطط السمينة من مهرّبين وأنصاف إرهابيين.
قدر تونس أن تصالح بين مطالب الثورة واستحقاقات الدولة، وأن تجمع بين شعارات الشارع وبين متطلّبات دوائر اتخاذ القرار، والعقل السياسي الذي نجح في جسر الهوة السحيقة في صيف العام 2013 وجنّب البلاد الفتنة والاضطراب لن تعوزه القدرة على اجتراح الحلول على أساس “التنازلات والتضحيات المشتركة” من أجل تونس، بعيدا عن سرديات استرداد “الاستبدادي العادل” في ثوب “حجّاج القرن الحادي والعشرين”، وبمنأى أيضا عن سيناريوهات “الثورة على الثورة”… وما وضع بعض العواصم منّا ببعيد.
——————————————————————————————————————————–
* كاتب ومحلّل سياسي تونسي.