تحاليل _ تحاليل سياسية _ حركة النّهضة ونداء تونس: مَنْ يُوَظِّف مَنْ؟
جرت العادات السياسية على أن تتحالف الأحزاب، وتبنّي ائتلافاتها التكتيكية والانتخابية وفق الحدّ الأدنى من التقارب الأيديولوجي، إذ أن ذلك التقارب يوفر منطلقا ضروريا في التشخيص والرؤية والبرامج، لكن تجارب قليلة في العالم العربي خاصة، أنتجت ضروبا من التحالفات تبدو غريبة باعتبار أنها جمعت أجساما سياسية مختلفة أو متناقضة أيديولوجيا، وهو ما كان يثير دائما جدلا واسعا سواء بالدفاع والتبرير انطلاقا من كون الاستبداد مثلا قد يوحد المتناقضات الأيديولوجية، أو بالرفض والاستهجان واعتبار الأمر انتهازية تولّي ظهرها للمبدأ وتيمم وجهها فقط شطر المصلحة الحزبية.
المسألة قابلة للتنسيب ولا تقتضي الإطلاق، ذلك أنّ التحالفات السياسية هي من جنس واقعها، حيث يقال دائما أنّه في السياسة لا صديق دائم ولا عدو دائم، بل فقط مصالح دائمة، وإذا كان التحرك السياسي محكوما بهدف الوصول إلى السلطة، فإن جدوى التحالفات أو نجاعتها تقاس بمدى تحقق هذا الهدف.
في عام 2005 انبثق في تونس إطار عمل سياسي عُرف، ومازال يعرف، بتجربة 18 أكتوبر 2005، وقد قام على التقاء العديد من الشخصيات السياسية والأحزاب المعارضة لنظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، واشتقت التجربة اسمها من تاريخ بداية إضراب أعلنه 8 من المعارضين التونسيين آنذاك، وكانوا من مشارب سياسية مختلفة حدّ التباين؛ حيث ضمت الهيئة سياسيين من حزب العمال الشيوعي التونسي ومن حركة النهضة الإسلامية ومن أحزاب سياسية أخرى فضلا عن شخصيات حقوقية ومن المجتمع المدني.
ولئن مثلت هيئة 18 أكتوبر تجربة فريدة في العمل السياسي ودليلا على إمكان اجتماع قوى مختلفة على الحد الأدنى السياسي، إلا أنها أثارت جدلا كبيرا مازالت مفاعيله قائمة إلى اليوم، وطرحت الأسئلة عن جدوى إتاحة الفرصة وفتح الأبواب لتيارات يمينية لم تقدم الدليل على استعدادها للقبول بالشروط الديمقراطية، ويتعلل معارضو التجربة إلى اليوم بأن التجربة مثلت سوء تقدير لطبيعة المرحلة وهدية تسلل منها الإسلاميون إلى العالم، ثم تنكروا لوثائقها وإعلاناتها وبياناتها بعد الثورة.
في السياسة لا صديق دائم ولا عدو دائم، بل فقط مصالح دائمة، وإذا كان التحرّك السياسي محكوما بهدف الوصول إلى السّلطة، فإنّ جدوى التحالفات أو نجاعتها تُقاس بمدى تحقّق هذا الهدف.
الثورة التونسية قدمت مثالا آخر على التحالف بين حزب مدني (نداء تونس) وحزب إسلامي (حركة النهضة)، وهي تجربة مازالت تتلقى سهام النقد من كل حدب وصوب، من خارجها كما من داخلها. حيث صرح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في سياق ما يشبه التقييم للتجربة أن “النهضة قبلت التحالف ولكن ليس بشروطها مع أمل المساهمة في جلبها إلى خانة المدنية ولكن يبدو أننا أخطأنا التقييم”.
في العراق ظهر مؤخرا وفي سياق الاستعدادات الحثيثة للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في الخامس من مايو المقبل، تحالف مثير بين الحزب الشيوعي العراقي والتيار الصدري، استعدادا للانتخابات، ومرد الاستغراب البون الشاسع الذي يفصل بين حزب شيوعي وتيار ديني لا يخفي منطلقاته الدينية والطائفية. ولئن دافع رائد فهمي سكرتير الحزب الشيوعي العراقي عن التحالف بالقول “العمل المشترك بين مدنيين ورجال دين يعدّ تجربة ثقافية وستكون لها تأثيرات على المجتمع العراقي”، وبأن التحالف “ليس تحالفا أيديولوجيا”، إلا أن ذلك لم يبدد التساؤلات وحتى السخرية من المتحالفيْن اللذين تنكر كلاهما لأدبياته ومنطلقاته الأيديولوجية.
تجربة 18 أكتوبر في تونس وتحالف الحزب الشيوعي العراقي مع التيار الصدري، منطلقات مفيدة لطرح قضية جدوى التحالف بين تيارات سياسية متناقضة أيديولوجيا، ومدى قدرة كل تيار على “التنازل” عن مواقعه الفكرية بغاية الحلول في أرضية وسطى تجمع التيارين، وهو ما يتيح أيضا طرح المزيد من الأسئلة حول إمكانية تفوق السياسي على الأيديولوجي، وحول إمكانية نجاح الأحزاب اليسارية في جرّ التيارات الدينية إلى مربع الفعل المدني السياسي، وبعيدا عن المسوغات الدينية والطائفية والمذهبية.
لا شك أن الفعل السياسي يفترض، أوليا، استحضار أدوات ومعايير لا علاقة لها بالانتماءات الدينية والطائفية، ولا شك أيضا أن الحزب ذاته، بوصفه أحد أشكال التنظّم الحديثة يمثل تجاوزا فكريا وسياسيا لأشكال التنظّم التقليدية، ولذلك فإن التحالف بين أجسام سياسية مختلفة مسألة عادية إن قام بغاية خدمة الصالح العام وصون الدولة ومؤسساتها، وإن آمن بالعمل الديمقراطي السلمي.
بحث الجدوى من التحالف بين التيارات اليسارية والتيارات الدينية، قبل أن يكون قضية التقاء على برامج أو سياسيات، هو أيضا سؤال عمّن يجر الآخر إلى مربعه الأصلي؛ وأجوبته ونتائجه في عهدة من ادّعى بأنه ارتقاء على الاختلافات أكثر مما هو في عهدة من شكك في نجاعته.