تحاليل _ تحاليل سياسية _ حقوق المرأة التونسية وخطاب النّفاق. |بقلم: سلوى الشّرفي.
من البديهي أنّ الديمقراطية لا تتوقّف على حقّ الشعب في اختيار الحاكم، بحيث ينتهي حكم الشعب عند صناديق الاقتراع، لأنّ الديمقراطية هي قبل كلّ شيء ضمان حقوق الأفراد بفضل حقّ المجتمع في مراقبة السياسة الاجتماعية والاقتصادية للمجموعة الحاكمة. ففي انجلترا لا يوجد نصّ دستوري، ولا دستور أصلا، يضمن حريات المواطنين، وإنّما الضامن الوحيد هو الشعب الواعي بحقوقه. لكن ما رأيكم حين يقف المجتمع نفسه حجرة عثرة أمام تكريس حقوق الإنسان؟
فقد أثار إعلان رئيس الجمهورية التونسية بمناسبة عيد المرأة يوم 13 أوت عن مشروع إرساء المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وكذلك إلغاء المنشور الذي يمنع زواج المسلمة من غير المسلم، تنديد ورفض عدد من التونسيين. وفي المقابل لقى مساندة من البعض الآخر.
وقد تمّ إلغاء المنشور المذكور في حين تنكبّ لجنة على صياغة نصّ يضمن المساواة بين الجنسين في الميراث.
لذلك ما زال الجدل متواصلا بين الفريقين. والمفارقة أنّ كليهما يعتمدان على نفس المصادر لتبرير موقفيهما: الدستور والشريعة.
ونظرا لأهمية المسألة وما أثارته من حدة في المواقف فإنّها قد تؤثّر على مواقف النواب حين يوضع أمامهم مشروع قانون ينصّ على المساواة في الميراث. وهنا تكمن أهمية دراسة هذه المواقف وتحليل الحجج المبرّرة لها.
المساواة في الميراث في القانون
يعتمد الرافضون لمبدأ المساواة في الميراث الفصل الدستوري الذي يقول إن تونس دولة دينها الإسلام، مما يمنع حسب مبدأ احترام التسلسل الهرمي للقوانين إصدار قانون يخالف الدستور. لكن هل يعني هذا الفصل فعلا التقييد بالشريعة؟ الحقيقة أن الدستور التونسي لا ينص على أن الشريعة هي مصدر القوانين ولا حتى على أنها مصدر من مصادر التشريع. بل نجد في الدستور ما يفند ذلك حين يعلن أن تونس دولة مدنية وحين يضمن حرية الضمير والمساواة بين الجنسين. وهذه المبادئ تنتمي إلى منظومة فلسفة الدولة الحديثة التي تعتمد القانون الوضعي.
ثم إن قول الدستور أن تونس دينها الإسلام ليس جديدا، فقد نص الدستور القديم لسنة 1959 على نفس المبدأ، وهو ما لم يمنع إصدار قوانين مخالفة لأحكام القرآن مثل قانون السماح بالتبني وقانون السماح بالإجهاض، ناهيك عن القانون الذي يمنع تعدد الزوجات ويحكم على مخالفيه بالسجن. وقد دأب أساتذة القانون الدستوري على تفسير هذا الفصل بأنه مجرد وصف سوسيولوجي للعقيدة الغالبة في تونس اعتمادا على مداولات النواب الذين وضعوه وعلى الممارسة القانونية التي سبق ذكرها.
كل هذا ينسف إذن التحجج بالفصل الأول من الدستور لرفض المساواة في الميراث بين الجنسين.
المساواة في الميراث في الشريعة
يبقى المصدر الثاني وهو الشريعة، إذ يقول المعارضون أن عدم المساواة جاء في نص قرآني واضح لا يجوز الاجتهاد فيه. وهي مسألة فيها قول.
ونحن لا نرغب في الدخول في تأويلات لسانية من نوع «الحكم جاء بالحد الأدنى حين تحدث عن حظ الأنثيين» أو أولوية الوصية على الفرض في كل الآية المتعلقة بالميراث.
ونفضل التساؤل عن مصدر القول بقاعدة النص الواضح المعرقلة لتغيير النصوص القانونية أو حتى مجرد الاجتهاد؟ هذه القاعدة لم يأتي بها القرآن بل ابتدعها الفقهاء وتلاعبوا بها حسب رغبات السلاطين. إذ كيف يمكن الحكم على درجة وضوح النص في ضوء ترسانة النصوص التي سنتها وما زالت تسنها أغلب الدول الإسلامية في مخالفة واضحة للشريعة، ومن بينها قوانين عقوبات مختلفة عن العقوبات الجسدية المنصوص عليها صراحة في القرآن. والحق أن هذه الدول لم تقم ببدعة، بل سنت سنة الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب الذي لم يتردّد في تعطيل العمل بنصوص واضحة تخص المؤلفة قلوبهم وقطع يد السارق وأرض السواد أخذا بالأسباب. كما اجتهد مالك في نص الميراث بإدخال الوصية الواجبة في فقهه بحيث يمكن للحفيد المتوفى والده إرث جده وهو ما عملت به تونس المالكية منذ الستينات، بل إن المسلمين السنة لا يلتزمون حتى بتطبيق قواعد مرتبطة بالعبادات جاءت في نص واضح حسب المفهوم السائد للوضوح، مثل وجوب غسل الرجلين في الوضوء الواردة بوضوح في القرآن كما لا تتردد أغلب الدول المتغوّلة على حقوق المرأة باسم الدين والنص الواضح، في فتح الحانات ودور البغاء والقمار.
وفي المقابل يتعامى العديد من المسلمين وبعض الدول الإسلامية عن آية جلد الزاني والزانية وآية سجنهما الواردتان في القرآن، لتفضيل تطبيق عقوبة الرجم الواردة في السنة في مخالفة واضحة لفلسفة القانون الداعية إلى تطبيق العقوبة الأخف ولمبدأ وجوب احترام هرمية النصوص القانونية المعتمدة في الإسلام وفي فلسفة القانون عالميّا، بحيث لا يجوز للنص الأدنى أن ينسف النص الأعلى أي لا يجوز للسنة ان تنسخ القرآن.
هكذا يسمح المسلمون لأنفسهم بالنسخ وبتعطيل نصوص تعتبر واضحة وبمخالفة قواعد أخلاقية صارمة طالما أنها لا تمس مصلحة الذكر المالية. إنها مسألة نفاق بحت.
وهكذا ترتدي المصلحة المالية ثوب الكهان لتقف سدا منيعا في وجه حقوق مشروعة تفرضها التغييرات الاجتماعية الحاصلة والمختلفة عن تقاليد القرن السادس.
إن رفض إرساء المساواة بين الجنسين في الميراث يعد اليوم ضيما كبيرا تجاه المرأة التونسية لأنها مطالبة قانونا بالإنفاق على عائلتها وعلى والديها إذا كانوا محتاجين، كما أنها تدفع ضرائب مماثلة لتلك التي يدفعها الرجل، ولا تستحق، قانونا، مهرا يتجاوز دينارا، وهو مبلغ رمزي.
أما الحجة الثانية المبنية على الشريعة فتقول أن العديد من أحكام الميراث تعطي للمرأة قسطا أكبر من قسط الرجل، فلما اللهث وراء مساواة البنت بأخيها؟ وهنا يتساءل المساندون والمساندات للمساواة أين الإشكال إذن؟ ها قد ثبت بالنص والبرهان أن الله لا يبخس المرأة حقها في الميراث كاملا أو زائدا لعلة دائمة، فلماذا ترفضون سحب نفس المنطق على آية «وللذكر حظ الأنثيين»؟ ونحن مستعدات للتنازل عن بقية الأحكام التي تهضم حق الرجل في الميراث لصالح المرأة. خذوها كلها واعطونا فقط المساواة مع أشقائنا في ميراث والدينا، أي في من علوا، إذ لا حاجة لنا بميراث من الأولاد أو الأحفاد، فسنكون حينها قد انتهينا من بناء أنفسنا.
منع زواج المسلمة بغير المسلم
جاء هذا المنع بداية الستينات، في مجرد منشور صادر عن وزير العدل وفي مخالفة بينة لعدة معاهدات دولية صادقت عليها تونس تنص على حق المرأة في اختيار زوجها. كما يخالف هذا المنشور الدستور الذي نص على حرية الضمير والمساواة بين الجنسين في حين يتواصل السماح للرجل بالزواج بغير المسلمة ويمنع ذلك عن المرأة.
وكالعادة يتحجج المعارضون لإلغاء المنشور بالشريعة والقانون.
المنع في الشريعة
يعتمد المعارضون على الآيتين التاليتين:
«ولَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ». البقرة 224..
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ «. الممتحنة 10
وتتعلق آيتين بوضوح بالمشركين وليس بأهل الكتاب، والأمر واضح من السياق وفي أسباب النزول.
وتتوجه آية البقرة 244 صراحة وبوضوح إلى الرجل والمرأة لمنعهما من الزواج بالمشركين، ما يعني انه لا يمكن التحجج بها لمنع المرأة وحدها من الزواج بغير المسلم والسماح للرجل بذلك على أساس هذه الآية. فهي لا تقصد بالمشركين أهل الكتاب بل مشركي مكة الذين انقرضوا. وهل يجوز اعتبار أهل الكتاب مشركين في حين يقول القرآن بوضوح «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون». المائدة 69
بل يوجد في القرآن ما يمكن أن يسمح للمسلمة بالزواج بالكتابي على أساس آية: «اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم». المائدة 5
وهي الآية التي يعتمدها الفقهاء للسماح للرجل بالزواج بالكتابية ولكنها لا تمنع المسلمات من هذا الحق والقول بعكس ذلك يعني منع المسلمات من طعام أهل الكتاب. والمعروف أن صيغ العموم في القرآن تشمل النساء ولو كانت صيغتها جارية على التذكير
هذا إذن في ما يخص الحجة الدينية للمعارضين أما حجتهم القانونية فتعتمد على أخذ قانون الأحوال الشخصية «بالموانع الشرعية» غير أن القانون يوضح هذه الموانع التي لا تنص البتة على اختلاف الدين وتقتصر على آية المحرمات والرضاعة والطلاق ثلاث مرات والعدة.
قانون أم فقه حيل؟
والحقيقة أن فقه القضاء هو الذي أدخل بلبلة في الأذهان. فقد حكم بعض القضاة بحرمان غير المسلم من ميراث المسلم اعتمادا على هذه «الموانع الشرعية» التي وسعوها لتشمل منع الزواج مع اختلاف الدين وطبقوها فقط على المرأة. واعتمدوا في تحريمهم على السنة، إذ لا يوجد في القرآن ما يمنع الإرث بين المسلم وغير المسلم!.
إن هذه الأحكام التي بنى عليها معارضو زواج المسلمة بغير المسلم هي أقرب إلى فقه الحيل أكثر منه إلى فقه القضاء. فهي تعلي السنة على القرآن وتخلق مانعا لم ينص عليه القانون.
وسيجد بعض القضاة في هذه الفوضى الفقهية مدخلا للتأويلات فيتكئون تارة على المذهب الحنفي وأخرى على المذهب المالكي أو الإخواني أو السلفي، حسب طلب المتقاضي وقدرته على الدفع. وهو أمر لا يضمن الحد الأدنى لقضاء سليم، لان المتقاضي لن يعرف مسبقا المذهب الذي سيعتمده القاضي ولن يستطيع بالتالي تجهيز استراتيجية دفاعه. إن هذه الفوضى الفقهية لا تتماشى مع صرامة ووضوح القاعدة القانونية الحديثة التي تحفظ حقوق الناس.
وحتى لا نتهم بالمغالاة، يكفي أن نستشهد بقولة علي ابن أبي طالب عندما اشتدّت عليه مغالاة الخوارج الذين رفعوا في وجهه شعار لا حكم إلّا لله فقال لهم: القرآن بين دفتي كتاب لا ينطق وإنّما ينطق به الرجال.