تحاليل _ تحاليل سياسية _ وثائق بن سدرين: عودة ملف «الثّروات المنهوبة» إلى واجهة الأحداث في تونس واتهامات لبورقيبة بـ«الخيانة».
أعادت تصريحات رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» سهام بن سدرين الأخيرة حول الاتفاقيات الموقعة مع فرنسا، ملف «الثروات الطبيعية المنهوبة» إلى واجهة الأحداث في تونس، حيث طالب عدد من الأحزاب الحكومة بالكشف عن طبيعة هذه الاتفاقيات، وقرر آخرون مقاضاة رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة بسبب «تجديد» عقد بعض الشركات الأجنبية المستغلة للثروات الطبيعية، فيما اتهم آخرون الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بـ»الخيانة العظمى» نتيجة توقيعه لتلك الاتفاقيات التي ما زالت سارية حتى اليوم، في حين اعتبر البعض أن بن سدرين باتت تشكل «خطراً» على البلاد.
وكانت بن سدرين كشفت قبل أيام عن وثائق تمتلكها الهيئة وتم توقيعها بين الجانبين التونسي والفرنسي عام 1955 (عام قبل الاستقلال) ولكنها ما زالت سارية حتى اليوم، قالت إنها تتضمن جانبا «استعماريا» يتمثل في تمكين فرنسا من استغلال جميع الثروات الباطنية في تونس كالبترول والفوسفات والملح والماء وغيرها.
التصريحات أشعلت جدلا كبيرا في تونس، حيث اعتبر حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري أن تصريحات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة تمثل «خبراً مفزعاً وخطراً على الوحدة والسيادة الوطنيتين»، داعيا النيابة العمومية إلى التحرك بسرعة للنظر في صدقية هذه التصريحات. كما دعا رئيس الجمهورية إلى «إصدار بيان يؤكد فيه استقلال البلاد التام وإنكارها لهذه الاتفاقيات وعدم التزامها بها حتى وإن وجدت، باعتباره الجهة الضامنة للوحدة والسيادة الوطنية».
فيما دعا سمير بن عمر رئيس الهيئة السياسية لحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» إلى محاكمة رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة «من أجل تجديد عقد كوتيزال (شركة فرنسا تحتكر قطاع استخراج الملح في تونس) بسعر العقد الأول ننفسه المبرم في أربعينيات القرن الماضي وتفريطه في ثروات الشعب التونسي لفائدة المستعمر الفرنسي فضلا عن تجديده لرخص التنقيب عن النفط لفائدة الشركات الأجنبية بعد امتناع المجلس الوطني التأسيسي عن التجديد».
وردت الشركة في وقت لاحق على هذا الأمر بالتأكيد أنها طالبت الدولة التونسية مرات بمراجعة الاتفاقية الموقعة معها، مشيرة إلى أن الدولة لم تستجب لهذا الطلب وهو ما أدى إلى تجديد العقل بشكل «آلي».
ولجأ بعض رجال الدين والمحسوبين على التيار المعارض لبورقيبة إلى شن هجوم على الرئيس الراحل واتهامه بالتفريط في ثروات البلاد، حيث نشر الداعية بشير بن حسن قبل أيام على صفحته في موقع «فيسبوك» صوراً للحبيب بورقيبة مرفقة بتعليق «هذا المجرم العميل الذي باع ثروات وطننا العزيز وحارب الدين وأهله وغير الشرع الحنيف ونشر الجهل والتخلف وقتل وسحل وسجن وظلم وجار وإلى الآن نعاني عبيده، وهم سبب تخلف تونس فكريا واقتصاديا وخلقيا، حاشا شرفاء وأحرار وحرائر بلادنا. اللهم من أحبه ودافع عنه فاجمعه به حيث كان».
وكتب الشيخ عبد القادر الونيسي «لا أظن أن سهام بن سدرين غبية إلى الحد الذي تغامر برصيدها النضالي وتدعي أن بورقيبة تنازل عن الثروات الباطنية لفرنسا إن لم تكن تملك الأدلة القطعية التي تؤكد قولها. خيانة عظمى تفريط بورقيبة في ثروات البلاد للمستعمر القديم مقابل كسب ولائه ومساعدته على تصفية خصومه وفرضه على رأس البلاد. أعظم من بيع ما تحت الأرض بيع ما فوقها. باع جامع الزيتونة منارة تونس وذراعها في مشارق الأرض ومغاربها».
وأضاف: «باع بورقيبة الجامع الأعظم لأنه كان ينافس فرنسا النفوذ في افريقيا من خلال طلبته المنتشرين في مفاصل السلطة في القارة السمراء ولأنه أقض مضجعها في الجزائر من خلال علمائه (ابن باديس والإبراهيمي والتبسي) الذين كان لهم فضل إنطلاق شرارة ثورة التحرير، ولأنه أنجب أشرس المعارضين لاحتلال تونس ولأنه السد المنيع أمام دعوات التغريب والإنبتات (…) تجرأ على أركان الإسلام وسعى إلى تعطيلها وهي سابقة لم يجرأ عليها غيره من الطغاة من دون ذكر سخريته من أقدس ما في ضمير الأمة القرآن وتعرضه إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتشكيك والتحقير. المحصلة حصاد الهشيم لا تنمية ولا رخاء ولا بنية تحتية صلبة ولا ترقي في مدارج الحياة المختلفة وتعليم في أسوأ حالاته».
فيما اعتبر منير بن صالحة القيادي في حزب «نداء تونس» الحاكم أن بن سدرين «صارت خطراً على البلد لها تاريخ لا نعرفه ولها صراعات لم يعشها أحد غيرها»، مشيراً إلى أنه «حان الوقت لتدخل المؤرخين المحايدين لحماية الذاكرة الجماعية من التلف».
وكتب الباحث عادل اللطيفي على صفحته في موقع «فيسبوك»: «سهام بن سدرين وهيئتها للحقيقة والكرامة (وليس مبدأ العدالة الانتقالية) أصبحت خطراً على الدولة وعلى الهوية الوطنية (التشكيك في الاستقلال). أصبحت أيضا خطراً على الوحدة الوطنية بإثارتها خلافات (بروقيبية / يوسفية) نسيها التونسيون وكتب حولها المؤرخون الكثير. أصبحت أيضا خطرا على المعرفة التاريخية وعلى البحث التاريخي التونسي من جراء تقديمها الاستعراضي للتاريخ المعاصر ولمصادره وضربها لمجهود المؤرخين التونسيين. فهي تروج لمغالطات كبيرة تتطلب التصدي. لذلك أدعو إلى مناظرة تلفزية مباشرة بين هيئة بن سدرين وبين مؤرخين تونسيين حول تونس المعاصرة تاريخا ومصادر ومنهجا كن نضع حدا للتلاعب بعواطف التونسيين وبتاريخهم. أدعو زملائي لتحمل مسؤولياتهم لإنهاء هذا القرف المعرفي وقطع الطريق أمام كتابة تاريخ شعبوي مواز».
يذكر أن بن سدرين طالبت العام الماضي المؤرخين التونسيين بـ«إعادة كتابة التاريخ» بناء على الوثائق والشهادات التي تمتلكها هيئة الحقيقة والكرامة، وهو ما دعا عدد من الباحثين والمؤرخين إلى معارضة هذا الأمر مؤكدين أن المؤرخين يترفّعون عن «الدخول في مهاترات لا تفيد البلاد والعباد وتزيد في عمق تأزّم مسار العدالة الانتقالية بالطريقة التي يدار بها اليوم».
————————————————————————————————
* بقلم حسن سلمان.