تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري*
تكتمل الخميس المقبل أربعة شهورٍ على اختطاف رئيس البرلمان التونسي المنحلّ تعسّفا، زعيم حركة النهضة المعارضة، راشد الغنّوشي (84 عاما)، من منزله. وقد قضت محكمة في جلسةٍ تغيّب عنها، رفضا منه تابعيّة القضاء للسّلطة السياسية، بالسّجن عاما (وغرامة 328 دولارا)، وذلك لقوله، في جمعٍ كان فيه، إنّه “لا يخشى طاغوتا ولا ظالما”. وليس مقصد هذه السّطور التذكير بالمعلوم عن قراقوشيّة الحكم الرّاهن في تونس، وذيليّة السّلطات التنفيذية والتشريعية الملفّقة، وبعض القضائية، لمزاج رئيس الجمهورية. واحتجاز الغنّوشي في السّجن، كما زملاء ورفاق له في حركة النهضة (بينهم رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض) وفي تشكيلاتٍ أخرى معارضة، من بين شواهد بلا عددٍ على مدى انحطاط الحكم ورثاثة الإدارة والسلطة والتسيير في بلدٍ يفترسُه الاهتراء العام والتراجع الاقتصادي المريع وركاكة الحياة السياسية، وغير ذلك من بؤسٍ فادحٍ يرعاه الرئيس، صاحب النزوع التسلّطي، المحميّ من قوىً عميقةٍ في الدولة. إنما المقصدُ التذكير بصمت نخبٍ عربيةٍ مثقفةٍ عريضةٍ عن انتهاكٍ صريحٍ لحقوق نائبٍ تونسيٍّ منتخب، ومفكّرٍ إسلاميٍّ، ومناضل منذ عقود ضد الاستبداد، ورئيس برلمان. وهذا موصولٌ بالتحاق هذه النخب البكماء بأنظمة استبدادٍ نشطةٍ في احتجاز المعارضين وإيداعهم سجونا مات كثيرون منهم فيها، والمشهد في مصر يزوّدك بأدلةٍ متواترةٍ على هذا.
عرائضُ وبياناتُ وقّعت عليها شخصياتٌ عربيةٌ وأجنبيةٌ وازنة، طالبت بالإفراج عن الغنّوشي، وطالبت بإنهاء العُسف في تونس، معظم العرب منهم من أهل الفعل السياسي المعارض (أيمن نور مثلا)، ومن التيّار الإسلامي (سعد الدين العثماني مثلا)، وباستثناء حقوقيين مرموقين قلّة (المنصف المرزوقي مثلا) وناشطين معدودين، تكاد لا تُصادف من أهل الكتابة ومبدعي الفنون والأدب أحدا. وفي البال إنّ مثقّفين لا يستمزجون البيانات والعرائض، ويُؤثرون التّعبير عن مواقفهم في مقالات رأيٍ وتدويناتٍ وتغريداتٍ وتصريحاتٍ، وقد أشهر بعضٌ طيّبٌ منهم مساندتهم الغنوشي وكلّ سجناء الرّأي الذين تتزايد أعدادُهم في تونس. ويستحقّ دراسةً معمّقةً ازورار مثقّفين من أهل القلم والرّأي، ومن ذوي سلفيّاتٍ يساريةٍ غالبا، وقوموياتٍ عروبيةٍ أحيانا، عن التّعاطف مع ثمانينيٍّ انتخبه قومه نائبا، كتب مؤلفا ما زالت له قيمته العالية “الحرّيات العامّة في الدّولة الإسلامية (1993). وستكون دراسةٌ كهذه كاشفةً، ودالّةً، مجدّدا، على أنّ واحدةً من أسباب محنة الأمّة نقصُ الثّقافة الدّيمقراطية عند نخبٍ عربيةٍ واسعة، ذلك أنّك تلقى من ينشطون في التنظير الجيّد في مسألة حقوق الإنسان، ويدعون إلى تنزيلها في الحياة العربية، غير أنّهم يضنّون بكلمة تعاطفٍ تجاه سجينٍ إسلاميٍّ في مصر أو تونس، ويستسهلون الترديد الببّغائي عن احترام القانون وحماية الدولة والمجتمع من الإرهاب والتطرّف، صدورا عن مواقف معلّبة، لا تتفحّص الحالة ولا حيثيّاتها. وهناك من المثقّفين العرب من خيّبوا أمل قرّائهم وطلبتهم، من طراز سعد الدّين إبراهيم الذي كان صوتا شجاعا، في ثمانينيات القرن الماضي، في التّشديد على حقوق الإنسان في مصر وعموم العالم العربي، وها نحن نلقاه أخرسَ بشأن موت أكثر من ألف مواطن مصري في أقلّ من عشر سنوات في سجون النظام الحالي في مصر، بالتعذيب والإهمال الطبّي، بل نراه يطلُب، قبل شهور، من الرئيس عبد الفتاح السيسي الترشّح لولاية جديدة.
حدث قبل أيّام أنّ الشّاعر التونسي، سامي الذيبي، حُكم عليه بالسّجن ثلاثة شهور، لاتهامه بالتجاوز في تغريدةٍ خصّ بها وزيرةً في بلده، فحظي بموجةٍ كبرى من عبارات المساندة، أبداها كتّابٌ وشعراءُ وروائيون وإعلاميون في بلده وخارجها. ليس غريبا أن كثيرين منهم لم يكترثوا أبدا إلى ما يلقاه المُواطن التونسي راشد الغنّوشي من انتهاكٍ لحقوقه، مُحتجزا في السجن بسبب جملةٍ عارضةٍ قالها، كما علي العريّض وراشد الخيّاري وعصام الشّابي ومئاتٍ غيرهم. ومن ظواهر ماثلة في السياق الذي انشغلت به هذه السطور ممارسة النكاية وأولويتها عند الذين لم يروا للغنّوشي وزملاء له حقوقا في حرّية الرأي والتظاهر والتعبير، وإيثارَهم المكايدة على الحسّ الأخلاقي والمبدئي (أو شيءٍ منه!).
موجز القول، إنّ واحدة من أسباب انتصارات الثّورات المضادّة بعد موجة الرّبيع العربي المواقف التي ناصر بها مثقّفون عرب سلطات الاستبداد والانقلابات، وأنْ تجد من هؤلاء مَن يروقُ لهم قيس سعيّد رئيسا فهذا من مظاهر خللٍ عميقٍ في أشخاصهم ومداركهم، والغنّوشي وصحبُه في غنىً عن مساندةٍ من أيّ منهم.
* كاتب من الأردن