تحاليل _ تحاليل فنية _ الفنّ الصّوفي بين الشعبي والنخبوي موروث ثقافي وحضاري مشعّ في تونس. |بقلم: روعة قاسم.
للفن الصوفي حضور واسع ومتميز ولافت في تونس، إذ لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من تقاليد توارثتها الأجيال لهذا الفن الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنسوج الثقافي والاجتماعي لهذا البلد، حتى صح القول ان تونس هي أرض للصوفية والمتصوفة. فظهرت ما تسمى «الزيارة» و»الحضرة» وغيرها من الأناشيد الصوفية التي يحاول عبرها المنشدون التقرب إلى الله عبر سلك أحد طرق التصوف خاصة مع ما عرف عن المتصوفة من عشق لا متناه للموسيقى والفن.
«هيا نزوروا شيخنا يا فقرا (يا فقراء).. سيدي علي عزوز نشوفو نبرأ» و «سيدي رايس الأبحار يا رفيقي على الله يا باجــي» و «الله الله يا بابا وسلام عليك يا بابا سيدي منصور يا بابا ونجيه نزور يا بابا..» بعض مما يذكر من الأغاني الصوفية والأناشيد التي تتغنى بأولياء تونس الصالحين وتتمنى زيارتهم ومن هؤلاء السيدة عائشة المنوبية وأم الزين الجمالية ومحرز بن خلف وأبي سعيد الباجي وسيدي منصور وأبي الحسن الشاذلي الذي تفقه وتصوف في تونس. والمعلوم ان التراث الصوفي يحتل مكانة كبيرة في التقاليد والعادات التونسية، وتعتقد شرائح واسعة أن تونس محروسة ومحفوظة بأوليائها خاصة وأن الأزمات التي تصيب بلاد العرب لا تؤثر كثيراً في تونس وذلك لطف من المولى عز وجل بها من أجل هؤلاء الصالحين مثلما يعتقد كثير من المواطنين.
زوايا وطرق
والمعلوم أن لكل زاوية في تونس طريقة صوفية تختص بها حيث تقام في جنباتها الطقوس المتعلقة بالتعبد والاذكار والتقرب إلى الله ومناجاته وطرق كل أبواب الإيمان والتعبير عن اختلاجات الشوق إلى الذات الإلهية. ومع الوقت انتقلت هذه الطقوس إلى الركح والمسرح وباتت من أنواع الفنون الغنائية والموسيقية التراثية والشعبية الهامة في بلاد الخضراء.
ومن الزوايا المعروفة في تونس نجد زاوية سيدي بوسعيد الباجي التي ولد فيها رئيس البلاد الباجي قائد السبسي، وسمي الباجي نسبة إلى سيدي أبي سعيد الباجي، الذي حملت اسمه أيضا القرية السياحية العالمية الشهيرة ذات الأبواب الزرقاء والجدران البيضاء والمطلة على البحر المتوسط، قرية سيدي بوسعيد. وزاوية للا المنوبية، وزاوية سيدي أبي الحسن الشاذلي وزاوية سلطان مدينة تونس سيدي محرز بن خلف، وزاوية سيدي علي الحطاب وسيدي علي عزوز والزاوية المدنية بقصيبة المديوني بجهة الساحل، ولا تخلو مدينة أو قرية تونسية من وجود مقامات وزوايا أولياء حتى باتت كثير منها تسمى بأسمائهم، وذلك بالإضافة إلى من دفن من صحابة رسول الله في أرض الخضراء في مدينتي القيروان وقابس.
واللافت أن الزوايا الصوفية في تونس تعج بالمريدين من الفقراء إلى الله كما يسمونهم، فزاوية سيدي أبي الحسن الشاذلي في مدينة تونس المنتصبة على قمة جبل يشرف على عاصمة الخضراء لا يتوقف فيها الذكر. كما أن الأغاني الصوفية التي تتغنى بالذات الإهية وبالنبي محمد وكذا بالشيخ الشاذلي تأخذ حظها في هذه الزاوية العامرة والتي كانت وما زالت مقصدا لعدد معتبر من المتصوفة التونسيين من أتباع الطريقة الشاذلية.
ويحصل هذا الإقبال على الشاذلي كصاحب طريقة للتعبد والتقرب إلى الله بالرغم من أن الشيخ أبي الحسن الشاذلي قد توفي ودفن في قرية حميثراء في صعيد مصر وهو في طريقه إلى الحج. لكن حاجز المكان والزمان لا يبدو أنه يحول دون التقاء الأرواح التي تتهجد لتبدع نمطاً موسيقياً فريداً نابعاً من الأعماق.
تاريخ الفن الصوفي
ويؤكد الناقد الفني خالد طبربي في حديثه لـ «القدس العربي» ان أصول الفن الصوفي في تونس تعود إلى بلاد المشرق العربي وخصوصا العراق ومصر وسوريا والحجاز ..وقال أن الفن الصوفي انتقل إلى البلاد المغاربية مع انتقال الفلسفة الصوفية معتبرا انه حديث نسبيا باعتباره دخل إلى تونس في حدود القرن السابع عشر أو الثامن عشر».
وأوضح أن الفن الصوفي ينقسم إلى نوعين: الفن الصوفي الشعبي والفن النخبوي. وفي ما يتعلق بالفن الصوفي الشعبي أكد على ان الطريقة العيساوية -وهي إحدى طرق التصوف في تونس وأول من قادت الفن الصوفي-هي الملهمة للفنون الأخرى الشبيهة مثل المالوف والفنون البدوية التي تطورت في مختلف المدن والقرى التونسية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. ويضيف قائلا: «وبعد ذلك جاءت طرق أخرى ولكل واحدة طريقة تعبيراتها مثل السليمانية والعزوزية والقادرية، ولكن رغم تطور هذه الطرق فإنه يمكن القول أن الفن الصوفي الشعبي عموما بقي يستند وفي الأساس إلى الطريقة العيساوية».
ويضيف: «عندما جاء الاندلسيون إلى تونس وسائر بلاد المغرب بعد أن طردهم الإسبان، جاؤوا معهم بفن الموشحات والمالوف واختلطت هذه الفنون بالموروث التونسي الصوفي. وهنا يقول الباحث التونسي عبد الحميد بن علجية في مؤلفاته ان الطرق الصوفية هي التي غيرت تعبيرات المالوف وجعلت من المالوف التونسي له خصوصية تميزه عن باقي الفنون في المنطقة المغاربية».
وفي ما يخص الفن النخبوي الصوفي اكد أنه في قطيعة مع الفن الصوفي الشعبي. وفي هذا السياق يرى عدد من المؤرخين والباحثين أن الأغاني الصوفية الشعبية التي برزت في عروض النوبة والحضرة وغيرها أحدثت تقهقرا ثقافيا في حركة التصوف في تونس. فهذه الحركة وعندما وصلت إلى بلاد المغرب تعرضت لانتقادات من قبل ابن خلدون والمؤرخين الجدد الذين اعتبروا ان كل ما جاء من الشرق من فلسفة وفن شهد تراجعا في المغرب العربي. في المقابل يعتبر طبربي أن الحضرة وهي إحدى أهم أنواع الفنون الصوفية الشعبية قدمت ملخصا للأجيال عن الصوفية وزادته جمالية الركح، ففي الحضرة يتم غناء القصائد باللغة العامية التونسية. ويرتبط الفن الصوفي النخبوي، بشعراء تونس الذين كتبوا في الفن الصوفي مثل الشيخ بن محمود، والشيخ حميدة عجاج، والشيخ علي البراق وهم من عظماء الغناء الصوفي وأجادوا كتابة الشعر الصوفي الذي تم تلحينه بالنغمات التونسية.
من المحلية إلى العالمية
وتجدر الإشارة إلى أن الفن الصوفي التونسي طرق أبواب العالمية وبات من أهم الأنواع التي تقدم في كبرى المهرجانات العالمية، فعرض الزيارة لسامي اللجمي شارك في تأثيثه قرابة 100 عنصر على الركح. وفيه عدة عازفين عالميين وتونسيين ومنهم مرات ساكاردلي وغوكسال باكتاغير والمغني التونسي منير الطرودي.
كما ظهر مؤخرا نمط جديد من الفن يربط بين الفن الصوفي وفن الراب الغربي مع الجيل الجديد من فناني الراب التونسيين. حيث حرص بعضهم على تقديم أغان مع منشدين للأغاني الصوفية ولاقت هذه الخلطة العجيبة نجاحا جماهيريا واسعا، كما لاقت أيضا انتقادات واسعة واعتبر بعضهم أن الآلات الموسيقية التي تستعمل في النمطين تختلف عن بعضها البعض ويحدث اختلاطها تلوثا سمعيا وجب تجنبه.
يشار إلى أن التيارات التكفيرية تعارض هذا التدين الشعبي الصوفي الطرائقي الذي ساهم في تماسك المجتمعات المغاربية على مدى قرون وفي تصديها للغزاة الشماليين القادمين من القارة العجوز وتحديدا الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين. وتعتبر التيارات التكفيرية محبة الصالحين من منظور متصوف شركا بالله يتطلب إقامة الحد، كما تحرم الغناء وهو ما جعل كثيرا من الزوايا الصوفية، مثل زاوية السيدة عائشة المنوبية وزاوية سيدي أبي سعيد الباجي، تحرق في تونس خلال الفترة بين سنتي 2012 و 2014 على يد المتطرفين التكفيريين.
وينتقد هؤلاء انتشار الغناء الصوفي في شهر رمضان خصوصا في مهرجان المدينة الذي يشهد عروضا غنائية صوفية عديدة بعد الإفطار تجلب إليها جمهوراً واسعاً من التونسيين يحتضنهم المسرح البلدي والفضاءات الثقافية والبيوت القديمة داخل أسوار المدينة العتيقة. حتى أن بعض قادتهم علق على المسألة بالقول، الشعوب تستقبل رمضان بالعبادات والذكر والتونسيون يستقبلونه بضرب البندير (آلة موسيقية إيقاعية تستعمل في الغناء الصوفي).