تحاليل _ تحاليل سياسية _ حرب أهلية تونسية في سوريا!
حرّكت زيارة وفد برلماني تونسي لإبداء التضامن والدعم لنظام دمشق مواجع السوريين وتساؤلاتهم حول سرّ جاذبية طاغية دمويّ كبشار الأسد لدى نخبة يفترض أن تمثّل شعباً فتح الباب للثورات العربية ومؤسّسات مهمّة، كالجيش والنقابات والبرلمان، قدّمت الأنموذج العربي الوحيد للوصول بالثورة الشعبية إلى برّ الأمان السياسي من دون إغراق البلاد بالدماء.
لم يقتصر الوفد البرلماني على جهة سياسية واحدة، كما يحصل عادة في الوفود التي تهبط إلى دمشق من أوروبا، والتي تضمّ عادة نوّاباً عن أحزاب عنصرية متطرّفة تعادي الإسلام، فقد ضمّ ممثلين من «نداء تونس ـ جبهة الإنقاذ» وهو الاتجاه الذي يرأسه محسن مرزوق، و«الجبهة الشعبية»، وهو ائتلاف سياسي يساري وقومي وبيئي، و«مشروع تونس» وهو حزب، بتعريفه لنفسه، «ليبرالي تقدمي»، و«الاتحاد الوطني الحر»، وهو حزب أسّسه رجل أعمال ذو ثروة في مجالات الطاقة والعقارات.
تعكس هذه الزيارة المهينة للشعبين السوري والتونسي اتجاهاً لا يمكن إغفاله قوّته في الشارع التونسي ويمكن تتبّع جذوره داخل حكومة «الترويكا» التي حكمت تونس بعد الثورة، وكان أحد المعبّرين عنه وزير الداخلية التونسي الأسبق لطفي بن جدّو الذي دخل عام 2013 السوق المفتوحة لتشويه الثورة السورية (والنساء التونسيات) عبر خرافة «جهاد النكاح» التي احتفل بها وقتها أيّما احتفال، وزايد بها على مناصري النظام السوري الطبيعيين من جماعة اليسار الستاليني والممانعة القومجية، وانسجم في ذلك مع وسائل الإعلام التونسية المؤيدة للنظام السوري والمروّجة لدعاياته.
هذه الحالة العجيبة لمشاركين في ثورة أسقطت زين العابدين بن علي (الذي هرب مفضّلاً عدم مواجهة غضب شعبه) بفضل جيش رفض رفع السلاح على المتظاهرين، يتعاطفون مع بشار الأسد، ومؤسساته الأمنية والعسكرية (التي استجابت لأوامره في إحراق البلاد بمن عليها) أفصحت عن ظاهرة فصام سياسيّ، كما أظهرت أيضاً نخبة تقيس الأمور بمقاييس التنميطات الشكلية والأيديولوجية وتعاني فراقاً روحيّاً هائلاً مع هويّة شعبها وثقافته، يقابله إيمان متجذّر بالاستبداد والمستبدين.
أدّى أنموذج هذه الظاهرة المتمثل في الاستبداد العلماني الشائه الذي يقوم على القمع والسجون واضطهاد الإسلاميين إلى فراق مع فئة كبيرة من الشباب التوانسة الذين وجد بعضهم حلاً لهذه الإشكالية بالسفر للقتال ضمن أكثر التنظيمات السنّية تطرّفا في سوريا (تنظيم «الدولة الإسلامية»)، ولكن الأغرب من ذلك بكثير أنّ تونس، كانت البلد «السنّي» الوحيد الذي انطلقت منه مجموعات أخرى من الشباب للقتال في صفوف النظام السّوري، وكما كانت هناك شبكات «جهادية» لتسفير المقاتلين السلفيين، فقد شهدنا شبكات «علمانية» لتسفير مقاتلين توانسة يريدون الدفاع عن نظام الأسد الكيميائي الذي أفنى مئات الآلاف من أبناء شعبه وغدا فاقد الشرعية والسيادة وتحول دمية في يد روسيا وإيران!
تعبّر هذه الأحداث عن مفارقة تونسية صارخة فالبلد الوحيد الذي نجا من الحرب الأهلية بات يمارس حرباً أهليّة بين شبانه المتطوّعين من جهتين دمويتين شديدتي التطرّف، ونخبته «العلمانية» و»الحداثية» مستلبة تماماً ومنجذبة إلى نظام فاحش طاغية وخارج عن كلّ القوانين البشرية والأممية والأخلاقية.
يقدّم النظام السّوري، لتلك النخبة المفترضة علمانيّة، إذن، مثالها الأقصى عن طريقة فهمها لطريقة التعامل مع شعبها، وهو أمر يدلّ على إشكال فكريّ فظيع إذا لم يشكل خطراً على المجتمع التونسي نفسه.
———————————————————————————–
* عن موقع القدس العربي.