تحاليل _ تحاليل سياسية _ ما الذي يخيف التونسيين؟ |بقلم: نزار بولحية.
كثيرا ما يصفونهم بأنهم استثنائيون ومميزون في كل شيء. لكن هل هم حقا حائرون ومذبذبون وخائفون مثلما تشير لذلك بعض المواقف والآراء والاستطلاعات؟ حتى إن قبلنا وسلمنا بالأمر فهل من ضيق الحاضر؟ أم من ثقل الماضي؟ أم من غموض المستقبل؟
يعود التونسيون الذين كسروا قبل سبع سنوات حاجز الرعب وصرخوا في وجه مستبديهم بأن «لا خوف بعد اليوم»، ثانية إلى مربعات القلق والحيرة، بعد أن طلقوها بالثلاثة وتركوها إلى غير رجعة؟ هل يكون تدهور اقتصادهم وانحداره لمستوى كارثي غير مسبوق مثلا؟ أم تكون ضبابية ديمقراطيتهم التي يتربص بها الانقلابيون من الداخل والخارج، ويتحينون فرصة الانقضاض عليها؟ أم توقعات أكثر من سياسي تونسي وأجنبي بهيمنة وشيكة للإسلاميين على مقاليد السلطة بعد الانتخابات البلدية المقبلة، هي ما يجعلهم قلقين وممتلئين خوفا وتوجسا مما قد تخبئه لهم الأيام من مقادير ومفاجآت صعبة؟
صباح الخميس الماضي دق محافظ المصرف المركزي التونسي جرس إنذار آخر، قد يكون الأخير، وقال في مؤتمر صحافي عقده بمقر البنك، إنه قلق من وضع اقتصادي يكشف عن « أرقام مخيفة جدّا»، وإن «التضخم يرتفع لمستويات غير عادية. فبعد أن عشنا طويلا مع معدلات فائدة بين اثنين وثلاثة في المئة، ثم انتقلنا إلى اربعه وخمسة في المئة، وهي عتبة جديدة وصلنا الآن إلى سبعة في المئة. وإذا لم نتخذ إجراءات فسنبلغ عتبة أخرى». لكن مروان العباسي لم يكشف بالمقابل شيئا عن طبيعة تلك الإجراءات، أو عما إذا كان هو من سيبادر لاتخاد جزء منها على الأقل، أم إنه سيترك المهمة بالكامل على عاتق رئيس الحكومة، رغم أنه يعرف بالتأكيد حجم وحدود صلاحياته على المستوى المالي والاقتصادي، ولكن ما الذي دفعه لإطلاق صيحة الفزع تلك، والجميع يعلم تقريبا أصل الداء، ويدرك حتى بالعين المجردة مقدار الهوة السحيقة التي تردى لها اقتصاد تونس بدون أن يحتاج أحد لخبراء حتى يشرحوا له مثلا ما تعنيه الأرقام القياسية التي وصلها العجز التجاري، أو ما يدل عليه عمليا وصول مدخرات البلاد من العملة الأجنبية الصعبة إلى ما يعادل فقط سبعة وسبعين يوما من التوريد. هل كان يبحث إذن عن تقديم مبررات لمهمة إنقاذ مالي واقتصادي يعرف أنها باتت في ظل الظروف المحلية والإقليمية شبه مستحيلة؟ أم أنه كان يستحث الحكومة على التحرك قبل فوات الأوان وجنوح المركب بمن فيه؟
في كل الأحوال لم يكن جديدا أن يسمع التونسيون، منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع، صيحات الفزع من الأرقام والمؤشرات والتصنيفات الاقتصادية، التي كانوا يرونها تتهاوى بسرعة قياسية، أو تحذيرات الخبراء من أن تونس في طريقها لأن تصطدم قريبا جدا «بالحائط». لقد اعتادوا على ذلك واعتادوا أيضا على مسؤولين حكوميين يقولون لهم إنهم مطالبون بالعمل والصبر، وإن عليهم أن يفخروا بأن بلدهم، رغم كل شيء، هو الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيط الاستبداد العربي الواسع. لكنهم لم ينتبهوا جيدا، على ما يبدو، في خضم ذلك التركيز الإعلامي على شؤون معاشهم، لتصريح غريب أدلى به وزير خارجيتهم الأسبوع الماضي لبرنامج «دائرة الخطر» الذي يبث على قناة «دوتشه فيله» التلفزيونية الألمانية، قال فيه لمحاوره تيم سيباستيان «دعنا نكون صادقين، تونس ليست ديمقراطية بعد. أمامنا طريق طويلة للوصول إلى نظام ديمقراطي متكامل تكون فيه الشفافية سيدة الموقف». ووجه الغرابة هو ألا احد كان يقول بالطبع بأن الديمقراطية التونسية استوت واكتملت وصارت قوية وصلبة مثل ديمقراطيات أوروبا، أو أنها ليست في مراحلها الجنينية الأولى. ولأجل ذلك فقد بدا تجاهل المسؤول الأول عن شؤون الدبلوماسية كل الخطوات التي قطعتها بلاده نحو تلك الغاية غير مفهوم. لماذا فضل النظر للنصف الفارغ من الكأس بدلا من أن ينظر للنصف الملآن؟ ولماذا بخس وقلل بشكل ما من شأن وأهمية ما حققته بلاده مقارنة بالدول القريبة منها مثلا؟ هل كانت تلك علامة غضب ويأس غير مبررة من ديمقراطية لم يعد أحد يفكر في إنها تكفي لإغراء الغربيين بتقديم الدعم الضروري لتونس؟ أم أنها لم تكن سوى إشارة خفية إلى أن البلد الصغير لن يستطيع الصمود طويلا بوجه الضغوطات القوية، التي يتعرض لها بسبب اختياره السير ضد التيار؟
ربما عكس تصريح الدبلوماسي البارز جزءا من حالة القلق والشعور الذي ينتاب التونسيين بأن الديمقراطية أدارت ظهرها لهم، وأنها صارت رهينة لإملاءات الخارج أكثر من إرادة الداخل، ولم تقدر إلى الآن على صنع الفارق المنتظر في حياتهم. ولكن ما الذي ينقصها حتى تصبح أكثر قوة وصلابة وجذبا؟ هي ماتزال بحاجة لاستكمال بناء مؤسساتها، مثلما يدل على ذلك عدم توفقها إلى الآن للتصديق على المحكمة الدستورية، التي يفترض أن تكون الفيصل في أي تأويل لنص الدستور، والحاجز ضد أي زيغ أو انحراف محتمل عنه. وهي ما تزال رهينة التقلبات والظروف والأهواء، بشكل بقيت معه الشكوك قائمة إلى الآن في القدرة على تنظيم انتخابات بلدية نزيهة وشفافة، رغم تحديد موعدها بشكل رسمي في مايو المقبل. لكن المشكل لا يبدو قانونيا وتشريعيا بحتا، بل سياسيا بالدرجة الأولى. إنه يكمن في تصور التونسيين لحاجتهم لنوع وطبيعة الديمقراطية التي يرغبون فيها. وهل إنها ستكون بالنسبة لهم غاية وهدفا، في حد ذاته؟ أم أنها مجرد طريق ووسيلة لبناء دولة العدل والرفاه التي يتمنون؟ والعائق الأكبر هنا هو أن عدم فهمهم وإدراكهم لذلك التحديد بالذات، هو ما يجعلهم متابعين سلبيين لصراعات الديكة المستمرة، وللمبارزات الصوتية التي ينساق وراءها سياسيوهم، وتنتهي غالبا لا بفائز ولا بمهزوم، بقدر ما تعمق حيرتهم وتزيد يأسهم وقنوطهم من حصول أي تغير أو إصلاح حقيقي في بلدهم وتجعلهم يكفرون بالديمقراطية، ويتمنون في لحظات ما رجوع قبضة الاستبداد القديمة، عسى أن تعيد لهم بعض الهدوء والاستقرار، الذي يمنعهم من السقوط في الفوضى والمجهول. أليست نكبة تونس في نخبتها مثلما علّق ساخرا ذات مرة رئيس حكومتها السابق؟ ألا تبث تلك النخب الحداثية والديمقراطية الآن خوفا جديدا من الديمقراطية بالتعسف عليها، وسوء استخدامها بعد أن كان جزء منها زمن الاستبداد يبث خوفا قديما من معارضة السلطة والخروج عن إرادتها القمعية؟
المصيبة أن المتحكّمين في مفاصل الدولة يشيعون الخوف بدلا من أن يبشروا التونسيين ويفتحوا أمامهم آفاقا وآمالا بالمستقبل. ولأنهم لا يمتلكون حتى شجاعة رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق جون بيار رافاران، فهم لا يستطيعون أن يقولوا مثله إنه «وجب التحذير وإطلاق صافرة إنذار، بضرورة مساعدة تونس التي تمثل امتدادا للأمن القومي الفرنسي، وإن فيها بيئة سياسية مواتية لصعود الإسلاموية وغزوها للحكم ديمقراطيا»، بل يحاولون بكل السبل مداراة مواقفهم وإسقاط مخاوفهم ومخاوف غيرهم على كل التونسيين بلا استثناء، بتركيز أنظارهم فقط على النصف الفارغ من الكأس.
———————————————————————————-
* نزار بولحية |كاتب وصحافي من تونس.